صلاح سليمان
بوزنان مدينة بولندية جميلة زرتها أثناء أزمة الكورونا، في موسم الشتاء سنة 2020، واعتقدت وقتها أني رأيت كل شيء، وكنت أظن أن السياحة تتركز على وسط المدينة القديم، حيث ساحة المدينة المحملة بعبق التاريخ الذي يمتد إلى القرن الثالث عشر، بالتحديد في عام 1253 حيث أمر الدوق بزيميسل الأول ببنائها.
ومرت الأيام وعدت إليها مرة ثانية بدعوة من السيد Jan Mazurczak مدير فرع السياحة في بوزنان، الذي وضع برنامجا يعرفنا فيه على المدينة بشكل لا لبس فيه، ليس فقط التاريخ والمتاحف، وإنما أيضا الطبيعة الساحرة والبحيرات والحدائق، بل والمطاعم التي تقدم وصفات محلية من الأطعمة البولندية الشهيرة.
بدأت الرحلة عندما اجتمع شملنا، أنا وإعلاميين من دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تأمل بوزنان في تنشيط حركة السياحة معها بعد تدشين خط طيران مباشر يربطها بدبي افتتح في أكتوبر 2023 بواقع 3 رحلات أسبوعيًا، وهو الأمر الذي سيساهم بلا شك في تعزيز الروابط السياحية بين البلدين.
رغم أنني زرت وسط المدينة القديم، حيث أشهر معالمها بيوت الصيادين الملونة ومبنى البلدية الشهير، الذي يحتشد أمامه السياح كل يوم في تمام الساعة 12 ظهراً لمشاهدة تمثالين لكبشين يخرجان من غرفة تعلو هذه الساعة وينطح كل منهما الآخر اثنتي عشرة مرة، مع مصاحبة عزف على البوق يقوم به أحد الحراس.
ومعروف أن المبنى تأسس في القرن الرابع عشر كمبنى رسمي حكومي، وأول سجل تاريخي ظهر عن هذا المبنى يرجع إلى عام 1310، وهو مصمم على شكل 3 طوابق تعلوها ثلاثة أبراج مضلعة تعلوها قباب.
الكبشان المتناطحان هما شعار المدينة، وستجدهما في كل مكان. وفي مفاجأة جميلة أعدتها لنا هيئة السياحة، عدنا إلى الماضي بصحبة أحد نبلاء المدينة القديمة بزيه القديم، وكان مرشدًا صحبنا في جولة في المدينة القديمة بهذا الزي ليشرح لنا وبشكل تمثيلي على طريقة القدماء المعالم التاريخية، وقصة الكبشين، شعار المدينة الذي يرجع إلى سنة 1551، عندما دعي رئيس البلدية لافتتاح تشغيل ساعة البرج. حينها اكتشف طباخ الحفل أن الطعام الذي أعده لحفلة الافتتاح قد فسد. فحاول سرقة كبشين ليذبحهما ويطبخهما ليرفع الحرج عنه، لكن الكبشين هربا إلى داخل المبنى وصعدا إلى الغرفة في البرج الأوسط التي تعلو الساعة، وظلا ينطحان كل من يحاول الإمساك بهما حتى شاهدهما رئيس البلدية، فأصدر مرسوماً رسمياً يتم من خلاله تخليد هذه الحادثة.
في ساحة الحرية، غير بعيد عن قلب المدينة، هناك نصب تذكاري كبير لأول انتفاضة ضد الحكم الشيوعي سنة 1956 في البلاد. ورغم أن الانتفاضة لم تدم طويلا لأنها لم تستمر أكثر من يومين، حيث سحقت القوات الروسية معززة بالدبابات، وجنود بولنديون تابعون للنظام الشيوعي الانتفاضة وقتلت 70 فرداً بينهم طفل عمره 13 عاماً، إلا أنهم فخورون بها ويحتفلون بها كل عام.
المدينة مفعمة بالحيوية، والناس لطفاء، ومتاجرها عامرة، ومطاعمها تشتهر بالأطباق البولندية الشهيرة. ولا عجب، فبوزنان هي خامس أكبر مدينة في بولندا، ولها تاريخ حافل تحكيه متاحف وأزقة المدينة. والسوق القديم فيها متعة للتعرف على منتجات البولنديين، أما البحيرات والغابات والحدائق فهي متعة للناظرين.
بعد توحيد بولندا عام 1320، أصبحت بوزنان مدينة هامة لبولندا وأوروبا. ساعدها على ذلك موقعها المهم في وسط أوروبا على مفترق طرق التجارة الأوروبية. ومن جهة التصنيف الاقتصادي، تتبوأ بوزنان اليوم المراتب الأولى بين مدن وسط وشرق أوروبا من حيث توافر الفرص الاستثمارية الممكنة، وهي بها ثالث أكبر الجامعات في بولندا. وعدد الطلاب يتجاوز الـ130 ألف طالب من كل أنحاء العالم يدرسون في مختلف الفروع، وأشهر جامعاتها “آدم ميكيوويسز” التي تقع في وسط المدينة بالقرب من القلعة الإمبراطورية.
قبل أن نترك قلب المدينة النابض، يأخذنا Wojciech Mania إلى منطقة روغالين لنرى متحف قصر روغالين، المقر السابق لعائلة رازينسكي، الذي أنشئ عام 1948 والذي يعود أصله إلى سبعينيات القرن الثامن عشر، ويحتوي على لوحات فنية قيمة ومجموعة متنوعة من العربات القديمة التي تجرها الخيول والتي كانت تمتلكها العائلة على مر تاريخها.
حديقة القصر من أجمل الحدائق في بوزنان، وهي مزروعة بأشجار البلوط، وبها أكبر شجرة بلوط معمرة في بولندا يرجع تاريخها إلى 800 عام مضت، تُسمى Rus Oak. وبما أن الشجرة بدأت تموت وفشلت كل محاولات إعادة زراعة أغصان منها، فقد نجحت المحاولات المعملية تحت رعاية خبراء في زراعة أحد أجزاء الشجرة التي تحمل كل جيناتها الوراثية، وباستخدام الوسائل العلمية الحديثة والكربون النشط بدأ الجزء ينمو ليتم الحفاظ على سلالة الشجرة المعمرة الرائعة ذات السيقان المتعرجة. في الحديقة أكثر من 1400 شجرة، والتي تم تصنيف العديد منها على أنها آثار طبيعية. أشهرها “ليش” التي يبلغ محيطها 6.33 م و”التشيكية” محيطها 7.35 م و”الروسية” محيطها 9.15 م، وهي حاليًا الأكثر سمكًا بين جميع غابات البلوط في روغالين، وهي صاحبة 800 عام. كل هذه الأشجار المهيبة تبعث في النفس البهجة والسرور أن نرى أقدم أشجار البلوط في بولندا كلها.
قبل أن نترك بوزنان إلى محيطها الخارجي نزور مجمع ستاري بروار للتسوق، وهو مركز تسوق معاصر ومركز أصيل للثقافة والتعليم. يمكن للزوار التسوق في أكثر من 200 متجر يضمها المجمع. وهو مركز فريد للغاية وحيوي للمدينة، كان في الأصل مصنعًا كبيرًا للبيرة تم تحويله إلى هذا المركز النابض على أيدي المعماريين البولنديين، ويزوره اليوم 9 ملايين شخص سنويًا. مما يجعله واحدًا من أهم مراكز التسوق في أوروبا. إنه مكان مليء بالقصص الحقيقية والملهمة وتُجرى فيه الكثير من الفعاليات، مثل الحفلات الموسيقية أو العروض أو اللقاءات مع أشخاص مثيرين للاهتمام. لا يتم تعريف ستاري بروار فقط بالمتاجر والمنشآت أو الهندسة المعمارية الرائعة الموجودة فيه، ولكن أيضًا بالتجربة الحضرية الحقيقية الجديدة في فن الشراء والبيع والإبداع في عرض المنتجات.
قبل أن نترك بوزنان، سنتناول الغداء في مطعم محلي يقدم الأطباق البولندية المحلية اسمه Hyćka، والاسم مأخوذ من نبات البلسان الأسود الذي يُسمى بالبولندية hyćka. والمطعم مولع بهذا النبات ويقدمه في أطباق عديدة، ويصنع به مشروباً خاصاً يحمل نفس الاسم. يقدم المطعم أطباق لحم البقر والبط وغيرها مع مخبوزات شعبية بولندية شهية للغاية.
نترك بوزنان ونتجه إلى حيث أجواء الطبيعة الرحبة، وقد بدأت الأشجار تأخذ ألواناً عديدة، فنحن في أوج فصل الخريف. سنذهب إلى أحد أكثر الأماكن التي يدور حولها لغط كبير، إنها القلعة الخيالية Stobnica، برفقة Aleksander Rudawski. القلعة فريدة جداً وأسطورية وبها الكثير من الغموض. هي قريبة من قرية ستويونتسيا في منطقة غابات Notecka، صُممت القلعة لتبدو كقلعة من العصور الوسطى، وهي تتميز بحجمها الهائل وبأسلوب مستوحى من العمارة القوطية، مع برج مركزي ضخم يصل ارتفاعه إلى 50 مترًا. المبنى يشبه إلى حد كبير القلاع التاريخية الأوروبية، ويحتوي على العديد من الأبراج والجدران العالية والمرافق الداخلية التي تذكر بالقصور الملكية القديمة، وقد بدأ البناء فيها في أواخر العقد الثاني من القرن الـ21، ولا يُعرف متى سيتم افتتاحها..
أثار بناء القلعة الكثير من الجدل بسبب موقعها في منطقة محمية طبيعية. تم اتهام المشروع بانتهاك القوانين البيئية، حيث تقع القلعة في منطقة تعتبر مأوى للعديد من الأنواع النادرة من الحيوانات والنباتات. كانت هناك مخاوف من تأثير البناء على النظام البيئي المحلي، وتم فتح تحقيقات متعددة في مدى قانونية بناء القلعة في هذا الموقع.
سرنا بمركب في بحيرة القلعة التي تتوسطها، والبحيرة تبلغ 20 هكتاراً، غاية في الجمال والروعة.
رغم الأبهة التي تظهر بها، فإن الجدل لا يتوقف. واتُهم المشروع بأنه ينتهك القوانين البيئية، حيث تقع القلعة في منطقة تعتبر مأوى للعديد من الأنواع النادرة من الحيوانات والنباتات. ومازالت هناك تحقيقات متعددة في مدى قانونية بناء القلعة في هذا الموقع.
يُعتقد أن القلعة تمول من قبل مستثمرين خاصين، ومع ذلك، لم يتم الكشف عن هوياتهم بشكل علني. تركز الانتقادات حول الطريقة التي حصل بها المطورون على التصاريح البيئية اللازمة للبناء في منطقة محمية. رغم أن المشروع لا يزال غير مكتمل، إلا أن هناك تكهنات حول الغرض الذي سيتم استخدام القلعة من أجله. البعض يرى أنها ستكون منشأة فندقية فاخرة، بينما يعتقد آخرون أنها قد تكون منزلًا خاصًا أو مكانًا ترفيهيًا للنخبة.
نترك القلعة وغموضها ونتجه إلى الرومانسية والطبيعة البكر في غابة Zielonka Forest في شرق بوزنان. إنها مغامرة جميلة في سيارات الدفع الرباعي التي راحت تخترق طرق الغابة غير الممهدة لنصل إلى غايتنا، إلى منتجع Weranda Home. إنها واحدة من أكثر المسارات إثارة للاهتمام والثراء في بولندا. والغابة مكان محبب جداً لجامعي الفطر والرحلات الأسرية ومحبي رياضة السير وراكبي الدراجات، والذين يهتمون بالبناء المعماري، حيث يمكنك التعرف على الهندسة المعمارية الدينية الخشبية لهذه المناطق. ويمكن زيارة قرية Zielonka، والتي تعرض بها مجموعة واسعة من النباتات من جميع أنحاء بولندا وجميع أنحاء العالم.
في منتجع Weranda Home مجموعة من الشقق الفندقية والغرف والفيلات، والمنتجع يقع في قلب الغابة. الفيلا يمكن أن تستوعب 12 شخصًا. تجذب الطبيعة البرية بسحرها وهدوئها زوار المنتجع، وتسمح لك التصميمات الداخلية الأنيقة للشقق بالاسترخاء بحرية. يتم إعداد الأطباق المقدمة باستخدام مكونات طبيعية من الموردين المحليين. يوفر المنتجع قوارب في البحيرة المرفقة به، ويمكن التجديف بحرية مع الأسرة أو الأصدقاء. إنها أجواء ساحرة.
تناولنا وجبة من الأسماك المحلية في مطعم الفندق قبل أن نعود إلى بوزنان، حيث تناولنا العشاء في مطعم مميز للغاية وهو مطعم Fromazeria الذي قدم لنا أطباقاً مختلفة من الجبن البولندي المتعدد، وكانت تجربة رائعة.