طهران – د.جمال المجايدة :الشمال في ايران , هو ساحل بحر قزوين , الذي يسميه الايرانيين منذ القدم بحر الخزر , وتعني بالعربية بحر اخضر نسبة الي اللون الاخضر الذي يغطي طول الساحل الايراني الممتد لمسافة 600 كيلومترا علي شاطئ البحر . وبحر الخزر هو اكبر بحيرة في العالم علي الاطلاق اذ تبلغ مساحته 424000 كيلومترمربع ويربط بين قارتي اسيا واروبا ويقع تحت مستوي سطح البحر ب 28 مترا ويقول الايرانيين انه ليس بحرا , بل بحيرة , لانه مغلق ويعتقدون انه من بقايا ( بحر تيس ) الكبير الذي كان يغطي جزءا من هضبة ايران في العصر الجيولوجي الثالث.
الشمال , بالنسبة للايرانيين هو تلك المنطقة التي يتنفسون فيها نسائم الحياة او الحرية او هكذا يخيل اليهم او للاغلبية الساحقة والمسحوقة منهم , لاسيما اولئك الملايين الذين لايستطيعون السفر الي الخارج .
حلم زيارة الشمال :
الشمال , هو حلم كل ايراني ليزوره في الصيف او في الشتاء ولو مرة واحدة في العمر لان الايرانيين فيما بينهم يعرفون الشمال ب( سويسرا الشرق ) نظرا لتنوع الطبيعة الجبلية المكسوة باللون الاخضر طوال فصول السنة وتدفق المياه الطبيعية والشلالات فيها .
ولذلك فاننا غامرنا في رحلة جبلية بالسيارة استغرقت تسع ساعات لكي نصل من العاصمة طهران الي ساحل بحر قزوين في الشمال .
رحلة مرهقة ومخيفة لان السيارة قديمة متهالكة وسائقها كان في غاية الارهاق في النصف الثاني من الرحلة خاصة حينما تتعدد الانفاق الطويلة الموحشة والمحفورة في بطون الجبال الصخرية او حينما تبدا قمم الجبال في الارتفاع الي مافوق سطح البحر باكثر من خمسة الاف متر .
ولكن الذي لايبعث علي الارتياح هو ان الايرانيين يذهبون من طهران او من شيراز البعيدة الي الشمال علي متن الدراجات النارية او بواسطة عربات صالون قديمة ومتهالكة بعضها لم يعد صالحا للاستخدام العادي فمابالك بقيادة فوق القمم الشاهقة او في ظلال الاودية السحيقة .
ومع كل اجتياز لمنعطف خطر او مداهمة السحب للسيارة فوق الجبال يهدئ السائق من روعنا قائلا ” لاتقلقوا , الكل هنا يقود سيارته بحذر شديد ليس خوفا علي حياته او حياة الاخرين , بل خوفا علي السيارة التي تعد اهم واغلي شئ في حياة الانسان الايراني , فالذي يمتلك سيارة هنا يبدو وكانه امتلك العالم نتيجة للضرائب العالية علي السيارات والتي تصل في بعض الاحيان الي 200% ” .
فوق القمم الجبلية :
الذي يخفف عناء الطريق هو تلك الاستراحات البسيطة المنتشرة علي القمم الجبلية او في الاودية او بجوار السدود والينابيع المائية الجارية والشلالات .
المسافة الفاصلة مابين طهران والشمال أي بحر قزوين هي 195 كليومترا فقط وقد يتساءل المرء لماذا تقطع السيارة تلك المسافة القصيرة في 8 او 9 ساعات ؟
الجبال والانفاق والاودية هي التي تطيل الطريق وقد تطيل عمر الانسان ايضا لانه يمر بتجارب قد لايصادفها في حياته خاصة اذا تناول الغذاء في منزل امراة قروية في الجبال تعيل اسرة كبيرة بمفردها او اذا جلس لتدخين الارجيلة مع الشاي بجوار شلالات المياه .
عندما نظرنا الي الخريطة وجدنا ان مدن شمال ايران كثيرة منها آستارا , ميناء انزلي , رشت , فومن , لاهيجان , رامسر , تنكابن , جالوس , كلاردشت , نوشهر , آمل , بابل , ساري , بهشهر, جرجان , وكنبد كاووس .
سالنا السائق , أي المدن افضل للاستراحة والاستجمام .
اجاب : كل مدينة لها ميزة تتميز بها ولكني انصح بالاقامة في رامسر ومنها قد نري المدن الاخري اثناء الزيارة .
بعد طول عناء وسفر وصلنا الي رامسر ومنها الي فندق قريب من الشاطئ , حملنا الامتعة يعدما حجزوا لنا الغرف , استراحة قصيرة وقبيل ان تغيب الشمس خرجنا مشيا علي الاقدام نحو الشاطئ !
السباحة غير محبذة :
اين الشاطئ ؟ لاشاطئ للفندق رغم انه قريب جدا من البحر , وفي مكان قريب وضعت لافتة صغيرة بالفارسية تشير الي اتجاه البحر , ممر ضيق اشبه بالزقاق يقودك الي الشاطئ .
لاشاطئ ايضا , صخور واكوام ضخمة من الحجارة تفصل اليابسة عن المياه وكل من يريد رؤية المياه عليه ان يتسلق الضخور او الحجارة ليري فقط لا ليسبح او يستجم , الشاطي كلة التهمه مبني حكومي تابع لوزارة الزراعة والمشكلة ان المبني غير مستغل والمنطقة كلها علي هذه الشاكلة , قلنا للسائق لاشاطئ هنا ؟ فلماذا نصحت بالاقامة في رامسر ؟
اجاب , الناس هنا لاتاتي الي البحر بل الجبل فالسباحة غير مستحبة هنا في ايران لانها من مظاهر الحرية التي تجلب الفوضي ؟
من هنا فهمنا اسباب اهمال الشواطئ التي طفنا بها علي بحر قزوين , باستثناء بعض الاستراحات الخشبية المتواضعة لاتوجد اماكن سياحية بالمعني المتعارف عليه لان الحكومة ربما لديها نظرة محافظة ازاء التوسع السياحي ولوكان الامر غير ذلك لتدفقت الاستثمارات السياحية من داخل وخارج ايران علي تلك المنطقة الطبيعية الرائعة .
العائلات الايرانية والخليجية , تاتي من كل مكان في ايران قاطعة الاف الكيلومترات لتخيم او لتقضي بعض الوقت علي شواطئ قزوين , دون ان تجد مكانا للاسترخاء علي البحر , وتكتفي بالقاء نظرة علي البحر الذي يميل لونه الي السواد الممزوج مع الفضي وكانها تودع البحر او تعاتبه علي مافعله بها ؟ مسكين ايها البحر !
في اليوم التالي , فضل السائق الصمت , دون ان يبادر باي اقتراح , لان الصمت اجدي في بعض الاحيان , قلنا له , اليوم تبدو علي غير العادة . مالذي حصل لك ؟
قال , هذه هي ايران , السباحة ليست عادة متعارف عليها وكنت اظن انكم تعلمون ذلك واشعر انكم غير مرتاحين هنا في الشمال .
قلنا له , من لم يعجبه فليشرب من ماء البحر !
قال : بسيطة انا اعرف شاطئا قريبا من رامسر يكفي للشرب ويزيد ؟ ثم ضحك وقال : لدي فكرة وهي ان نذهب الي الجبال .
رحلة جبلية :
بعد تناول طعام الافطار الاقرب الي حياة الزهد , ركبنا السيارة قاصدين الجبال , والجبال في الشمال متعة حقيقية , فهي جبال خضراء متنوعة الالوان نتيجة لارتفاعاتها المتفاوتة حباها الله بكل معاني الطبيعة الجميلة , لاشئ هناك يبعث علي الضجر , الحياة جميله هادئة , اللهم سوي الخوف والقلق في بعض الاحيان من المنعرجات الجبلية الحادة او الارتفاعات المخيفة فوق السحاب علي القمم التي تصل في تلك المنطقة الي 4356 مترا حسب الخريطة الجغرافية لايران .
ساعتان من السير والتوقف المريح فوق سفوح الجبال , الي ان وصلنا الي قرية صغيرة هادئة في حضن الجبل تسمي ( جواهر دي ) .
قالت المراة العجوز , تفضلوا الي الداخل , وتقصد المكان المخصص للزوار وهي عبارة عن مقاعد من جذوع الاشجار تحت اشجار العنب بجوارها بيت من الطين تبدو عليه اثار الزمن فقالت : لقد ورثت هذا البيت عن والدي قبل 65 عاما ومازالت اعيش فيه مع زوجي وبناتي الثلاث اما والداي فقد غادرا للعمل في المدينة !
قدمت لنا طبقا من العسل الجبلي النقي كانت قد اقتطفته من مناحل العسل امام ناظرينا و وراحت قشور الجوز الصلبة , ( عين الجمل ) وهي نوع من المكسرات تغطي اشجارها سفوح الجبال في تلك المنطقة الرائعة يضاف اليها اشجار البندق الموجودة بكثرة ايضا , وتضعها مع العسل الجبلي واحضرت اناءا ضخما من الشاي المغلي علي الفحم وبدأت الجلسة اكثر حميمية تم خلالها الحديث عن هموم العرب وايران والسيدة العجوز بصراحة كانت اكثر ثقافة من طالبات الجامعة فلديها تجربة في الحياة وتجيد بضع كلمات عربية وزارت سوريا والعراق وتحتفظ في بيتها العتيق بكتب عربية عن التاريخ الاسلامي ودفاتر عدة كتب فيها مئات الزوار العرب والاجانب الذين مروا من قريتها وتوقفوا عند كوخها الصغير لشراء العسل او المكسرات وتركوا عندها كلماتهم المعبرة او نماذج لعملات ورقية او صورا من بلادهم , فالمراة مثقفة من واقع الحياة وتحاول ان تعلم بناتها الفن ذاته !
تناولنا طعام الغذاء علي سفح الجبل ايضا وكان عبارة عن شواء من اللحم والدجاج مع الروب الايراني المعروف والارز مع الزعفران الذي يدخل كل الاطعمة الايرانية تقريبا فالمراة العجوز لديها سحر في اعداد الطعام لقد كان شهيا الي درجة جعلتنا نخطط في العودة اليها في اليوم التالي , الا ان الرحلة لم تتم بسبب الامطار الغزيرة التي داهمتنا علي بداية الطريق الجبلي مما اضطر السائق العودة الي الفندق لان غزارة الامطار تحول دون الرؤية والخطر مؤكد في مثل تلك الحالات , فاقترح السائق ان نزور بحيرة صناعية لاسماك الكافيار , فوافق الجميع لاننا لم نكن نري اسماك الكافيار من قبل .
الكافيار في بحر الخزر :
عشرات الالاف من اسماك ( التاس)في البحيرة وقيل لنا انها من افضل واغلي انواع الاسماك في العالم وبحر الخزر من اقدم البحار التي تعيش فيه هذه الاسماك ويطلق الايرانيين علي سمك الكافيار اسم ( فيل ماهي ) أي فيل السمك وهومن انواع سمك الكافيار الكبيرة الذي يبلغ زنة السمكة الواحدة منه حوالي 1500 كلغم واحيانا يتم استخراج مئة كيلو غرام من الكافيار من كل سمكة من هذا النوع , اما السمك وعظامه فتستخدم في صناعة الزينة والصمغ .
ولان الكافيار من اهم مصادر الدخل القومي في ايران فانه يتم الاكثار من انواع اسماك الكافيار صناعيا عن طريق بناء احواض كبيرة وبحيرات صناعية من اجل الحفاظ علي تلك الثروة وكذلك منع اصطياد الاسماك من بحر الخزر ( قزوين ) وتم في مختبرات شركة الاسماك انتاح 50 مليون سمكة صغيرة من اسماك الكافيار في انهار منطقة ( مازندار) في انتظار صيدها واستخراج الكافيار منها , هناك سمعنا عن تفاصيل عجيبة وغريبة اذا قالوا لنا انه لايجب اصطياد اسماك الكافيار قبل ان يتراوح عمرها مابين 15 الي 16 عاما لكي يمكن الحصول
علي الكافيار وحاليا يجري صيد اسماك الكافيار في 50 منطقة في الساحل الايراني علي قزوين وقال لنا المسؤول في مركز شركة الاسماك الشمالية ( شيلات ) ان انتاج ايران من الكافيار يزيد علي ال200 طن سنويا يتم تصديرها الي الخارج وخاصة اوروبا ويقول ان الكافيار بالنسبة لايران هو اللؤلؤ بلون الذهب الاسود نظرا لاهميته للاقتصاد الايراني .
ويصل سعر ال100 غرام من الكافيار الايراني الاسود الي 30 دولار امريكي تقريبا ولهذا السبب لم نجد الكافيار في أي مطعم من المطاعم التي دخلناها طيلة ايام الرحلة اذ يتم تصديره الي الخارج .
بعد تلك الجولة المثيرة عدنا الي الفندق لاستراحة قصيرة نعاود بعدها زيارة احدي المصحات العلاجية في حضن الجبل ولان رائحة الماء تشبه الي حد كبير رائحة البيض الفاسد تراجع الجميع عن فكرة الاستحمام , وصار من الاجدي البحث عن مكان مختلف لتناول العشاء لاسيما وان اطباق الكباب الايراني المشوي في الفحم تفقد بريقها في الاسبوع الثاني من الرحلة , قال السائق ان هنالك محل يقدم البيتزا علي الطريقة الايرانية , كانت فكرة طيبة فالبيتزا كانت علي الطريقة الايرانية فعلا لكن جمهور المطعم كانوا يجلسون علي الطريقة الامريكية , شبان يعصبون رؤسهم باغطية ملونة تحمل العلم الامريكي او يرتدون فانيلات عليها النسر الامريكي مع الوان العلم المميزة , سالت احدهم وكان طالب هندسة في السنة النهائية عما اذا كان امريكيا او زائرا , فاجاب انا ايراني من طهران .
سالته ولماذا ترتدي الالوان الامريكية وبلادك محاصرة من امركيا بل وانها مصنفة من دول محور الشر الي جانب العراق وكوريا الشمالية ؟
اجاب ” لاعلاقة لي بالسياسة وانا بصراحة معجب الحياة الامريكية ونحن نحب امريكا “
وراح زملائه وزميلاته يضحكون لفرط صراحته او جرأته ربما .
علي الطريق الساحلي او الجبلي مابين جالوس ورامس علي بحر قزوين يتسابق الشبان والشابات علي الدراجات البخارية وهم يرتدون الملابس الامريكية وهي فانله و غطاء للراس مرسوم عليها العلم الامريكي او جاكيت جلدي اسود مطبوع علي الظهر النسر الامريكي العملاق و تبدو المسالة في اولها مجرد صدفة لكنها حينما تتكرر فاغلب الظن ان تاثير الاصلاحيين في طهران بدا ملموسا في ممارسات الشباب الايراني الحياتية العادية .