اصفهان ( ايران ) – د.جمال المجايدة :السفر من شيراز الي اصفهان برا ,صعب جدا بالنسبة لاي مسافر لم يعتد ركوب الجبال والسير عبر دروبها الوعرة القاسية , لاسيما اذا كانت الجبال ملبدة بالغيوم, حيث تنعدم الرؤية ويتعذر علي السائق بسيارته القديمة السير بهدوء واطمئنان .
كان لابد لنا من السفر برا الي اصفهان وكان ذلك في اغسطس 2002 , وبما ان المسافة التي تستغرق بين المدينتين نحو 15 ساعة عبر سلسلة جبال( زاغروس ) التي ترتفع نحو خمسة الاف متر فوق سطح البحر , كان يتحتم علينا المبيت في منطقة وسطي لاخذ قسط من الراحة فوقع الاختيار علي ( ياسوج ) وهي مدينة صغيرة واقعة في احضان الجبال يتوسطها وادي تنهمر في دروبه الصخرية مياه الثلوج الذائبة صيفا بفعل حرارة الشمس لتشيع جوا باردا في المكان الذي يقصده الالاف من الايرانيين حاملين معهم اغطيتهم للمبيت بجوار الوادي وتحت ظلال الاشجار عدة ايام خلال عطلة الصيف الطويل .
والوادي , هبة ياسوج , اذ اقيمت علي جانبيه بعض المطاعم والمقاه الصغيرة غير ان الخدمات ليست كافية لكي تجعل من المدينة مقصدا سياحيا بالمعني المتعارف عليه , الخدمات معضمها بدائية والناس القادمين اليها يفترشون الارض للاصطياف المجاني ربما بسبب ضيق الحاجة او لربما لعدم وجود سوي فندق واحد لم تجر له اية عمليات صيانة منذ افتتاحه حسبما قال لنا المرشد السياحي !
ليلة في ياسوج !
انقضت تلك الليلة في ياسوج علي رائحة الشواء وصيحات بائعي الذرة المشوية والاغاني الايرانية ذات اللحن الشجي القريب من اغاني المعابد البوذية مع قليل من الاكل وتدخين النارجيلة والاحاديث المتقطعة مع البسطاء الذي يحرصون علي الحديث الي الضيف من باب تجريب اللغة الانجليزية التي تكاد تكون مفقودة عند عامة الشعب الايراني .
ودعنا الفندق اليتيم في ياسوج ومن فرط الارهاق وقلة النوم نسيت جواز السفر مما اضطرنا العودة اليه وكانه حريص علي عدم الفراق بعد ليلة مليئة بالتاملات والخيالات .
كان يوم جمعة , الا ان وسط ( ياسوج ) كان يعج بالسيارات الحكومية وبعض الشوارع تم اغلاقها فجأة , بعد لحظات مرت قافلة من سيارات الجيش تنادي الناس بالخروج الي الشوارع للتظاهر ضد امريكا وبوش , سالت السائق : ماالحكاية ؟ هل حصل شئ ؟
اجاب : ,” في الواقع اتهم الرئيس بوش نظام الحكم الاسلامي في ايران بانه يعمل ضد مصلحة الشعب الايراني وانه سوف يساند الشعب لتغيير النظام وهذا بصراحة امر مرفوض من الشعب والقيادة لانه تدخل سافر في شؤوننا , الناس هنا قد تكون لديها تحفظات كثيرة ضد النظام وقد تختلف مع اسلوب ادارة البلاد لنمها لن توافق علي أي تدخل امريكي مباشر او غير مباشر لان امريكا لم تتدخل في بلد وانصلح حاله , دائما تعمل علي نشر الفساد والخراب انظر مالذي فعلته في افغانستان , تدمير وقتل وخراب وفوضي حتي الان “.
الناس كانوا يستعدون للتظاهر وسالني السائق عما اذا كنت مهتما بالانتظار لمتابعة ماقد يحدث من خطب واثارة للمشاعر المناهضة لامريكا , قلت له ” الرجاء البحث عن اقصر الطرق للانطلاق من هنا ” .
في الطريق الى اصفهان :
وانطلقت السيارة مسرعة الي اصفهان عبر الجبال والاودية , قري وادعة صغيرة تصادفك وانت في الطرق الجبلي , وحين تشاهد من النافذة الاطفال والعجائز الذي يعيشون فيها تتذكر مشاهد ماقبل ظهور التلفزيون الملون , هل هناك توقفت الحياة ؟
اقول مجيبا : لااعتقد , فايران دولة قارية شاسعة الاتساع والتنوع وتضم الف مدينة وخمسون الف قرية يعيش بها اكثر من سبعين مليون انسان وليس معقولا ان يعيش الجميع في ظروف متساوية او مشابهة لزمن الناس الذين ينعمون بحياة كحياة سويسرا مثلا !
اقترح السائق بعد مرور اكثر من اربع ساعات من السير المتواصل الاستراحة لتناول طعام الغذاء في مدينة ( سميرم ) الجبلية التي اشتقت لونها وشكلها من جبال زاغروس .
وصلنا الي ( سميرم ) وكان يوم جمعة , وفي ايام الجمع ياخذ جميع الايرانيين عطلة اسبوعية , فكانت المدينة الصغيرة شبه خالية من المارة ومحالها ومطاعمها مغلقة وبينما كان هوائها الحار يلفح الوجوه اقترح السائق مواصلة السير الي منطقة اخري الي ان مررنا بقرية صغيرة مجاورة واشترينا من احد الفلاحين قطعا من الجبن والعسل واقداح من الشاي لكي تتواصل الرحلة الي اصفهان بدون مشقة .
بدت علامات الارتياح علي وجه السائق رضا بعد تناول الشاي والجبن ولانه ظن ان الامور تبعث علي الارتياح واصل السير في طريق جبلي يؤدي الي مدينة ( شاه رضا ) التي تتوسط المسافة مابين ياسوج واصفهان ليكتشف بعد اكثر من ساعة ان الطريق مغلق , والطرق هناك تغلق لفترات طويلة اثناء الصيف بغرض الصيانة الا انه لم يكن مايشير الي ان الطريق تحت الصيانة , وكان لابد من العودة لنكتشف ان اخرين ارتكبوا ذات الخطأ الذي تتحملة ادارة رصف وصيانة الطرق !
سلك طريقا اخر متهالكا , كان مستخدما منذ اكثر من 15 عاما ليواصل السير نحو ( شاه رضا ) , وفي تلك المدينة , قسط اخر من الراحة علي قارعة الطريق وشاي وماء وبعض الفاكهة لان ( شاه رضا ) كانت تتمتع باجازة الجمعة ايضا !
ضفاف نهر ( زايندة )
قبل غروب الشمس وصلنا الي اصفهان , وتوقفت السيارة بجوار احدي الفنادق وسط المدينة المكتظ بالمحال التجارية , الا ان الفندق كان يعاني من انقطاع التيار الكهربائي ويخيم عليه الظلام وقال موظف الاستقبال انه امر عادي لان التيار مقطوع في كل الحي ولاشئ يدعو للقلق , تركنا الامتعة في الغرف وتوجهنا سيرا علي الاقدام الي ضفاف نهر ( زايندة ) الذي يقسم اصفهان الي قسمين , تخيلنا ان كل اهل المدينة البالغ تعدادهم مليوني نسمة كانوا هناك يسيرون في الحدائق المحيطة بضفتي النهر او يتحقلون حولها بحثا عن نسمة هواء صيفية , غير ان المرشد قال ان ايام الجمع عادة تكون هكذا الناس يخرجون للاسترخاء ليس بقصد الزحام او التجمهر ولكن الكثافة السكانية هنا مرتفعة لان سكان القري والمدن المجاورة يتدفقون حيث مياة النهر تتدفق ويعودون ليلا الي امكانهم حتي لو مشيا علي الاقدام .
الايرانيون بسطاء للغاية يحاولون التكيف مع ابسط معالم الحياة في بلادهم تعودوا علي حياة الشظف والتعب منذ قرون طويلة ولم يعتادوا حياة الترف والاسترخاء فلاشئ سهل في حياتهم , هذا مالاحظناه في اصفهان خاصة علي وجوه الاسر القادمة للتنزه في المدينة من القري المجاورة .
فوق جسر خاجو :
اكثر مايميز النهر هو ذلك الجسر التاريخي المقام فوقه ويسمي جسر ( خاجو ) الذي قام بتشييده عباس صفوي عام 1065 هجرية ويبلغ طوله 105 امتار وعرضه 7,5 مترا وقد شيد علي مايبدو من الرخام والطابوق وتنساب تحته مياه النهر القادمة من مرتفعات جبل بختياري الاصفر ( زرد كوه بختياري )عبر مسافات طويلة , اما الجسر التاريخي الثاني المشيد فوق النهر في اوائل القرن الحادي عشر الهجري اثناء حكم شاه عباس الاول فيعرف باسم ( سي ويه بل ) أي ثلاثة وثلاثون قنطرة لان الجسر عبارة عن 33 قنطرة يمتد طوله فوق النهر الي 300 مترا وعرضه 14 مترا ويربط بين شطري اصفهان أي بين الحدائق الاربعة واقيمت علي جانبيه صالونات صغيرة لتقديم الشاي والحلوي الايرانية للسياح وكلها تتغني بالتراث بزخرفاتها وانارتها واجوائها التقليدية التي تترك لدي الزائر اثرا بالغا وفوق جزيرة صناعية وسط نهر زايندة اقيمت حديقة ياقوت التي يؤمها الالاف يوميا للتناول الطعام التقليدي او تدخين النارجيلة وشرب الشاي ويصعب الحصول علي مقعد فارغ فيها يوم الجمعة بسبب الزحام غير العادي .
قصر الاربعين عمود
بعد تلك الجولة كان لابد من العودة الي الفندق في انتظار برنامج اليوم التالي والذي بدأ في الصباح الباكر بزيارة الي قصر الاربعين عمود ( كاخ جهل ستون) التاريخي وقال المرشد السياحي ان الملك شاه عباس الثاني هو الذي بني ذاك القصر في العام 1057 هجرية ويقال ان التسمية جاءت من عدد الاعمدة التي استخدمت في البناء وهي عشرين عمودا يضاف اليها عشرون وهو ظلها في الماء أي في الحديقة المقابلة للقصر والاعمدة عبارة عن جذوع الاشجار المغطاة بالواح خشبية مطلية بالوان مختلفة وابرز مافي القصر قاعة المراي وقاعة المراسم وقاعة جهل ستون .
ومن الملاحظ ان الايرانيين يدفعون رسوما باهضة مقارنة بمتوسط الدخل الفردي كقابل للدخول الي القصور التاريخية او الاثار القديمة والتي تصل الي خمسة دولارات للفرد الواحد بالعملة المحلية المعروفة باسم التومان .
تاريخ اصفهان :
وتفيد الوثائق التاريخية ان مدينة اصفهان انشئت علي منحدر صخري علي الجانب الشرقي لجبال زاغروس في عهد الملك كيكاووس غير ان بعض النصوص توحي بان تاسيسها يعود الي عهد طهمورث ديوبند ثالث ملوك البشدادية في مطلع الالف الثاني قبل الميلاد , أي قبل بدء الحكم الملكي للسلالة الاخمينية التي اتخذت من المدينة مقرا صيفيا لها كما كانت في عهد الاشكانيين والساسانيين مركز تجاري عمره اكثر من 900 عام .
وتنتشر في اصفهان المساجد التاريخية ودور العلم الاسلامي نظرا لانها كانت اول مدينة في ايران يدخلها المسلمون ويقال حسب المراجع التاريخية ان الاسلام دخلها في العام 20 خجري غير ان الحركة الاسلامية تجذرت اكبر في عهد السامانيين وبعدها اصبحت عاصمة للدولة السلجوقية في القرن السادي الهجري ابان حكم الملك طغرل السلجوقي .
واصبحت اصفهان للمرة الثانية عاصمة لايران في عهد ابن السلطان جلال الدين الخوارزم شاه غير انها بلغت ذروة نهضتها في عهد السلطان شاه عباس الصفوي الاول مؤسس الدولة الصفوية وكل الاثار الموجودة فيها حتي يومنا هذا من مساجد ومراكز تسوق ومدارس وقصور ترجع الي ذلك العصر الصفوي وتلك الاثار هي مسجد الامام ومسجد الشيخ لطف الله وعمارة عالي قابو والبوابة القيصرية وكلها تعود أي القرن الحادي عشر الهجري عندما اصبحت المدينة عاصمة للدولة الصفوية .وحسب المراجع التاريخية فان المدينة تعرضت الي عمليتي تدمير الاولي حين غزاها الافغان فدمروا جزءا منها وذبحوا ابنائها وذلك في اواخر العهد الصفوي والثانية في عهد ابن السلطان ناصر الدين شاه الذي دمر الابنية الصفوية علي ضفاف نهر زايندة ونقل العاصمة الي طهران . ويسترعي سوق اصفهان القديم الانتباه لتخطيطه المحكم وروعه بناءه ويرجع الي زمن شاه عباس الاول ويتوسط مسجد وقاعة كان الملك يطل من خلالها علي الرعية وهم يبيعون ويشترون ام اليوم فان السوق هو مجرد مركز لبيع وصناعة السجاد والحرف اليدوية الاخري والزائر عادة يمضي بعض الوقت للتعرف علي خبايا السوق الذي تلطف اجواؤه الحارة صيفا نافورة مياه عملاقة وتجوب عربات تجرها البغال شوارع السوق حاملة علي متنها الزوار الذين يودون معرفة المكان .
الحجاب وحرية العبادة :
لاتزال كنيسة ( وانك ) علي حالها منذ العهد الصفوي علي صفاف نهر زايندة وتزين جدرانها رسوم جميلة مستوحاة من حياة السيد المسيح عليه السلام والي جوارها متحف تاريخي .
ويمارس المسيحيين الايرانيين طقوسهم بانتظام في تلك الكنسية او في 14 كنسية اخري في مدينة جلفا الواقعة الي الجنوب من النهر , الا ان النساء المسيحيات وغالبيتهن من اصول ارمنية يرتدين الحجاب والملابس الطويلة في اطار الالتزام بتقاليد المجتمع الاسلامي الايراني.
فالمراة في ايران سواء كانت مسلمة او يهودية او مسيحية او بوذية او زرادشتية فانها ملزمة بارتداء الحجاب والملابس التقليدية التي لاتفضي باجزاء الجسم الي الاغراء او اثارة الغرائز.
والحجاب اصبح كنوع من التقليد في ايران لدرجة ان المراة تحاول تحويلة مع الملابس الطويلة الي نوع من الموضه الراقية ليصبح اكثر جاذبية من الملابس العادية .
ويقول البعض ان عقوبة عدم ارتداء الحجاب لكل من هن فوق الخامسة عشر تصل الي السجن لمدة عام لذلك فان الالتزام واضح من قبل الجميع .
وعلي سبيل التاكيد علي الالتزام فان المطاعم والحدائق تعلق لافتات تقول انها لاترحب باي امراة لاترتدي الحجاب حتي حديقة الحيوان ترفع هذا الشعار والشرطة النظامية ( الاداب ) تقف علي بوابات المطاعم والحدائق العامة تراقب المخالفين و حتي زائرات ايران من الاجانب ياتين ومعهن حجاب !
اذن الحجاب اصبح هوية المجتمع الايراني لكنه لم يعبر عن الالتزام التام باحكام الشريعة الاسلامية لانه مفروض علي الجميع وليس اختيارا !