اسطنبول – خاص لموقعنا : بلد الثمانون ألف مسجد· كان هذا هو التعبير الذي أطلقه الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل ليدلل على متانة الإسلام في تركيا من جانب، وأن هذا الأخير لا يتعارض مع كون البلاد علمانية النظام· والتصريح سوف يكتسب دلالة خاصة من زاويتين الأولى عندما نعرف أنه أنطلق من العاصمة أنقرة التي اتخذها أتاتورك مؤسس الدولة الحديثة عاصمة لجمهوريته الجديدة التي قامت على أنقاض الإمبراطورية· أما الزاوية الثانية كون العاصمة زاخرة بالمساجد بعضا منها يعود إلى القرون الــ 12 و 13 و 15 نذكر منها على سبيل المثال جامع علاء الدين عام ،1178 ومسجد أصلان هان المشيد عام ،1290 وحاجي بيرام المشيد في الفترة من 1427 و ·1429 ومنها ما تم إنشائه في عصر الجمهورية ذاتها وأهمهما هوجه تبه على هضبة وسط العاصمة أنقرة على بعد أمتار من البرلمان ومقر الحكومة· وفيه يؤدي بعض المسؤولين الصلاة خصوصا في المناسبات المهم أن هوجه تبه (بتعطيش الجيم ويعني المعلم) سلك فيه المصممون نفس الأفكار والتقاليد الراسخة في المعمار والتى بزغت من إرهاصاتها الأولى بدءا من نهاية القرن التاسع الميلادي وبعد اعتناق الأتراك الإسلام·
والحق أن تركيا لها أن تفخر بهذا الكم الهائل من المساجد المنتشرة في كل بقاع الأناضول والتي شكلت في النهاية تراثا ثقافيا بالغ الأهمية بيد أنه ومن أجله يفد الآلاف من جنسيات مختلفة للوقوف على روعة المعمار وجمال الزخارف التي تختزل آلاف التفاصيل ومئات الحكايات· فالجوامع عالم فريد لا ينفصل عن تاريخ الأناضول الطويل بل هي جزء لا يتجزأ منه· وقد يعتقد البعض أن المساجد التاريخية الكبيرة هي فقط الموجودة في أسطنبول أكبر المدن التركية، وتحديدا في مناطق السلطان أحمد، وأمين أينونو· وتوب كابيه واكسراي بالجزء الأوروبي واسكدار، وكادي كوي بالجزء الآسيوى من المدينة غير أن جولة في الأناضول تكذب هذا الاعتقاد، فعشرات من المساجد الكبيرة تجدها في مدن الشرق البعيدة كأرزنجان، وأرزروم القريبتان من الحدود الروسية· وفي الجنوب الشرقي المتاخم للحدود مع العراق وإيران وسوريا، كغازي عنتب، وماردين وأورفا كذلك في الوسط، مثل مدن كونيا، وأفيون، وقيصرى· أيضا المناطق الساحلية كأزمير، وأنطاليا لا تخلوا منها، وبعضا منها لا تقل روعة عن مساجد أسطنبول· ومن ثم فلا غلو في القول: أن المساجد في تركيا تحتل أهمية استثنائية في حياة أي مواطن فبجانب ممارسة العبادات هناك المناسبات الدينية كأول رجب ونصف شعبان وشهر رمضان· ولا يوجد إقـليم من أقــاليم الأناضول إلا ونرى على مدخله عبارة (ulu cami ) (حرف الـــ C ينطق في اللغة التركية ج معطشة)، أي الجامع الكبير، وهو تقليد نشأ مع بدء إنشاء أول جامع في تركيا·
معابد النار
في موسوعته الهامة يحكي لنا ” اوقطاى اصلان آبا ” المؤرخ التركي البارز المولود في ” كوتاهية ” وسط غرب الأناضول (360 كيلو متر من أسطنبول) عام ،1914 والحاصل على الدكتوراه في الفنون الإسلامية، أن المساجد في تركيا بوجهاعام جزء لا يتجزأ من مكونات الفن التركي الذي انطلق في الأصل من الفنون الإسلامية· والأخير ظهر وتطور دون أن ينفصل عن تأثير الحضارات المحلية القديمة، ومن ذلك تأثير الثقافة الهلينستية المتأخرة والمسيحية في سوريا والفنون الساسانية في العراق وإيران· وقد تشكلت الأسس التي تطور عليها الفن الإسلامي، بانضمام العناصر العربية، والفارسية، والتركية إلى هذه الحضارات القديمة· ولأن العديد من الدول في التاريخ الإسلامي قد قامت على أيدي الأتراك، فقد أصبحوا العنصر الحاكم في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع الميلادي ولمدة قربت من ألف عام باستثناء بعض الفترات القليلة·
وبطبيعة الحال ـ والكلام للمؤرخ التركي أصلان ـ كان لا بد أن يخضع تطور الفن التركي لتأثير العديد من الفنون الموجودة، فعلى سبيل المثال لا الحصر سنجد ضريح ”إسماعيل الساماني”، الذي شيد في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي في ”بخاري” قد تأثر بمعابد النار الساسانية، ثم لعب دورا مهما في تطور الأضرحة بحقبتي ” القرة خانية ” و” السلجوقية ” والقباب والاواوين وعقود الزوايا بنفس الحقبتين، وهو ما سنأتي إليها تفصيلا فيما بعد تعود إلى اصل ساساني· لكن هذا التأثير لم يلغ الخصوصية التي تركها الفن التركي على المعالم الأثرية خصوصا الجوامع بيد أنها بقت ذو سمات خاصة وفريدة
إذا نظرنا إلى النقوش اللغوية الموجودة على المساجد القديمة نجدها تعود في شكلها دون مضمونها إلى تواصل بدأ من القرن السادس الميلادي، وقبل أن يدخل الأتراك الإسلام، الذين كانوا يعرفون في ذلك الوقت بأسم ” الاريغوريون ” وقد قام ” طونيو قوق ” بصياغة النقش الخاص به على الحرف الهجائي التركي القديم ومنه استمدت اللغة العثمانية مفرداتها· بالتوازى قام الأمير” يولغ تكن ” وهو من سلالة قاغانات الأتراك القدماء بتكريس ذلك، والمعروف أن هذا الأمير كان يحتل مكانا متميزا في الأدب التركي القديم·
ظهر الترك أو الأتراك أول مرة في العالم الإسلامي حين انخرط عدد قليل منهم من بلاد فرغانة وطشقند وبلاد ما وراء النهر في قوات الحرس والسكرتارية الخاصة بدولة الخلافة العباسية في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي· ومع بدايات القرن التاسع الميلادي أخذت أعدادهم في ازدياد، وحين حلت خلافة المعتصم كان الحرس الإمبراطوري أو حرس الخلافة كله من الترك· ومنذ ذلك الحين خصص لهذا الحرس مقر دائم في مدينة جديدة هي سامراء التي أنشأها المعتصم على ضفاف دجلة شمالي بغداد عام ·838 من هنا بدأت بذور الفن التركي في الظهور، ويذهب المؤرخ التركي أصلان إلى القول بأن ” شطف الحواف (المدببة) الذي شاع في الزخرفة بالجص في المنازل، والقصور، والذي نفذ بواسطة صب الجص الندي، في القوالب الخشبية، يعتبر ابتكارا أدخله الترك على الفن الإسلامي وقد ظهر هذا الأسلوب في التحف المعدنية بوسط آسيا قبل سامراء كما ظهر في زخرفة العمارة التركية بعد سامراء·
وفي دولة ” القرة خانيين ” في آسيا التي أسسها القره خانيون وهؤلاء كانوا يعرفون بآغوات ” التركستان ” أو الـ ” إيليك ” (والأخيرة تعني في اللغة التركية الحالية بخير أو الـ ” افراسياب ” وقد أسس هذه الدولة قوم ” القارلوق الترك ”· وعندما تفرق شمل إمارة الاويغوريين على يد ” القرغيز ” (فرع آخر من الترك) عام 840 رأي ” يابغو ” وكان زعيما للقارلوق ومواليا للاويغوريين أن يجعل من نفسه، أميرا تركيا، وأن يتخذ لنفسه لقب ” قره هان ”· وامتد عمر هذه الدولة، من منتصف القرن التاسع إلى أوائل القرن الثـــــالث عشـــر الميلادي (842 ـ 1212)· وكان أول مســـجد أقامه ” القره خانيون ” بالقـــرب مــن ” بخاري ” عاصمة ” طشقند ”· يذكر أن معظم آثار مدينة بخاري تم بناؤها على يد محمد سليمان ارسلان خان (1087 ـ 1130)·
بلغ قطر قبة هذا المسجد 6,5 متر تحملها أربع أقبية ترتكز على دعائم قصيرة مستديرة وبقطر يبلغ 30 سم· ويتضح من هذه القبة أن تخطيط المسجد مال إلى التركيز والصغر وهذا واضح من القباب الصغيرة التي في الأركان حيث يبلغ متوسط القطر 3,6 متر والمسجد من داخله يوحي بالبساطة بفضل التشكيلات المكونة من الطوب ورشاقة العقود وانسجام التخطيط والعمارة· ومما يلفت النظر هو أن هذا البناء ” القره خاني ” المبكر وبالمقارنة مع المساجد ذات المساحات الضخمة التي تأسست على يد العثمانيين، في القرن السادس عشر، نجد الأخيرة استوحت في بنائها نفس هذا الأسلوب المركزي وبأنصاف قباب أربع·
ولا يخفي أن ” القره خانيين ” جعلوا الفترة من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر مرحلة تطور رائع في استخدام الطوب في العمارة· بالإضافة إلى السمات المعمارية ذات المساحات المستطيلة، كذلك نجحوا في إيجاد علاقة بين القبة الرئيسية والأقباب الصغيرة من جانب· وواجهات المسجد والزخارف المصنوعة بالطوب والسائدة في تزيين واجهاتها من جانب ثان· ومن جانب ثالث سنلاحظ أن زخارف الواجهات نراها متكررة في محراب المساجد التي شيدت في هذه الفترة· كل هذا كان بمثابة الخطوة الأولى لتصميمات العمائر ذات القبة الواحدة، التي تمتد إلى كل جوانب المبنى، وقد اتبع الأسلوب ذاته مهندس البناء الفذ سنان في العصر العثماني في القرن السادس عشر .
تركيا .. بلد الثمانون ألف مسجد
36