صلاح سليمان
لم أكن قادرًا على تخيل قضاء نزهة تحت سطح الأرض على عمق 100 متر، فإذا كانت الطبيعة تُبهر الأنظار فوق سطح الأرض بالجبال والأشجار والبحيرات، فكيف سيكون الاستمتاع تحت سطح الأرض؟!!
الجواب كان علي باب منجم “فاليتشكا” لاستخراج الملح في بولندا، عندما اتخدنا القرار بالهبوط ، وعلى عمق 100 متر بدأت رحلة الأعماق حيث أخذ مرشد الرحلة يتحدث عن مآثرها وأهميتها كخبرة جديدة مضافة لعالم الرحلات، خاصة مع اتساع عمق المنجم وشبكة الأنفاق بداخله ومساحته التي تقدر بـ 300 كيلومتر، لكن المسموح للزوار فقط 3 كيلومترات.
عالم فريد تحت سطح الأرض
قبل الزيارة، يقدمون للزائرعرضين ليختار أحدهما: الأول هو الجولة العادية، والثاني هو الجولة الاحترافية للمهتمين بعمل عمال المناجم. وتعتبرالجولة العادية هي من أشهر الجولات وتناسب الزوار من جميع الأعمار وهي التي اخترناها، وفيها يأخذك الدليل إلى المناطق الرئيسية في المنجم، بما في ذلك الغرف الرائعة تحت الأرض وغيرها من المعالم الملهمة.
أما جولة عمال المناجم، فهي تحتوي على الكثير من الشرح حول العمل داخل المنجم وكيف كانوا يعملون في تلك الظروف، وهي مخصصة أكثر للدارسين والمتخصصين والذين يميلون إلى روح المغامرة ويبحثون عن الإثارة والتحدي، و يرتدي الزائرون أثناء السير معدات تعدين ويتبعون الدليل الذي يتمتع بخبرة واسعة ومعلومات وفيرة في استكشاف المناطق المحيطة بالمنجم والممرات تحت الأرض.
قبل بداية الرحلة، ذكرنا الدليل أن منجم ملح “فاليتشكا” أصبح عالمًا فريدًا تحت الأرض بعد توقفه عن الانتاج عام 1973.. وفي عام 1978، تم اختياره موقعًا للتراث العالمي لليونسكو اعترافاً بتميزه ومساهماته التاريخية، ثم تحول بعدها إلى السياحة. وهو يستقبل اليوم مليون زائر سنويًا، وبلغ عدد زواره منذ افتتاحه حتى الآن 41 مليون زائر.
بدأنا خطوة النزول الأولى على سلم حلزوني ينحدر 850 درجة تحت سطح الأرض، وعلى الدرجة الأخيرة، ظهرت أمامنا دهاليز وغرف وطرق متشعبة قادنا أحدها إلى بهو كبير تتدلى منه ثريات مصنوعة من الملح وأعمال نحت فنية كلها مصنوعة من الملح. ثم شاركنا الدليل بعض الحكايات حول حياة عمال المناجم على مدار العقود الماضية، وكيف كانوا يقضون وقتًا طويلًا في العمل في منجم الملح هذا؟، وكيف كذلك أنشأوا مجتمعهم وطريقة معيشتهم الخاصة؟..كان من الواضح أنهم تعايشوا مع الواقع تحت الأرض، وأصبحت حياتهم فوق سطح الأرض مثلها تحتها، فنجدهم بنوا كل الأعمال الفنية التي نحتوها ، والكنيسة التي شيدوها لآداء صلواتهم ، والمرافق الطبية، وحتى المسرح. كلها تشير إلى أنهم جعلوا من هذا المكان منزلًا لهم!
كل شئ مصنوع من الملح
مع تواصل السير، لاحظنا أن رائحة الملح تفوح في أرجاء المكان، وتتوالى المشاهد؛ فها هي البحيرات الملحية، والهوابط والصواعد التي تحبس الأنفاس بجمالها والتي تكونت عبر آلاف السنين، فهي تنمو بأجزاء من المليمتر سنويًا وتتميز باختلاف ألوانها نسبة إلى المعادن الموجودة فيها. أما انعكاس الأضواء الصناعية عليها فيجعلها شديدة اللمعان وخلابة.
وبينما كنا نعبر الممرات تحت الأرض كانت المنحوتات الملحية تبهرنا، وفيما كان الدليل يواصل الشرح، كانت العين لا تخطئ فعل الطبيعة المذهل الذي كون هذا المنجم. فلا يمكن للكلمات أن تعطيه حقه من الوصف التجريدي، لأن رؤية العين تجعل الشخص يفهم حقًا مدى روعة هذه الأعجوبة المعمارية.
منذ أن تحول المنجم إلى متحف تاريخي، السياح لايتوقفون عن زيارته، فهو يعطي الزائر فكرة عن استخراج الملح قبل 5 قرون مضت، ويستطيع أن يشاهد أيضا مراحل استخراج الفحم من الآلات القديمة مرورًا بالعصر الحديث. وبه أمثلة عديدة لتلك المعدات والكثير من الأعمال التي ما زالت شاهدة على أداء العمال في كل الأزمنة.
مع زيادة نسبة السياح، تحول المنجم إلى مدينة تحت الأرض، فأصبح فيه فندق ودار استشفاء لمرضى الجهاز التنفسي وقاعة أفراح للمهتمين بعمل حفلات غير عادية، وفيه أيضًا قاعة اجتماعات كبيرة ومطاعم وأكشاك لبيع التذكارات والأعمال الفنية البولندية التي تذكر بالمنجم.
الأجواء داخل المنجم صحية والشعور براحة الأعصاب هو أول ما يخالج النفس، فأنت بعيد عن عالم البشر والضوضاء والسيارات والزحام والتلوث، والمثير في الأمر هو ما يشعر به الزائر في ذلك الغموض الذي يكتنف هذا المنجم المذهل المليء بالأساطير والحكايات.
تاريخ المنجم
من المهم أيضًا أن نعرف التاريخ العملي والتاريخ الجيولوجي لهذا المنجم الكبير. أما التاريخ العملي فقد بدأ في القرن الثالث عشر، عندما أمر الملك كاسيمير الثالث ملك بولندا باستغلال منجم الملح الواسع هذا، وأصبح مصدرًا مهمًا للثروة في الدولة البولندية وجلب الازدهار لمدينة كراكوف، ومن ثم أصبح تعدين وتجارة الملح الركيزة الرئيسية للاقتصاد المحلي.
أما التاريخ الجيولوجي للمنجم فقد بدأ في التكوين قبل 130 مليون سنة عندما كان البحر يغطي منطقة كراكوف، ومنذ ذلك التاريخ، بدأ المنجم يتشكل من تلك المياه المالحة لهذه البحار القديمة.. وبمرور الوقت، تسببت حركات الصفائح “التكتونية ” في تحولات في الطبقات الأرضية وزيادة في الضغط تحت الأرض، مما نتج عنه ضغط طبقات الملح ودفعها نحو السطح من خلال هذه الحركات والتغييرات الجيولوجية، مما أدى في النهاية إلى منجم الملح الذي نراه اليوم.