سردينيا – د.جمال المجايدة : لأول مرة اشاهد أشجار الفلين في جزيرة سردينيا الإيطالية , قبل ذلك كنت اعتقد ان الفلين مادة صناعية , لكن حينما يتجول المرء في هذا الكون يكتشف أشياء لاتخطر له على البال .
خلال جولتي في مصنع للفلين في سردينيا رايت ان صناعة الفلين حيوية في في تلك الجزيرة الإيطالية وفي حوض البحر المتوسط حيث ينتج أكثر من 99 في المئة من فلين العالم.
وابلغني مدير المصنع انه لا تقطع أي شجرة للحصول على الفلين، بل ان استخراجه هو من أكثر أعمال الحصاد رفقاً بالبيئة. ويأتي الفلين من نوع من أشجار السنديان دائم متوطن في غرب البحر المتوسط. ومنذ أن يصبح عمر شجرة الفلين 12 سنة، يمكن حصاد الفلين من لحائها كل 12 سنة، علماً أن متوسط عمر أشجار الفلين هو 175 ـ 250 سنة، ويعيش بعضها 600 سنة.
وحصاد الفلين يحتاج الى مهارة عالية، حتى أن لفؤوسه تصميماً خاصاً. يُحدث الحاصد جروحاً دقيقة في اللحاء، ثم ينزعه عن الشجرة، في عملية شبيهة بنزع قشرة الموزة. ويستطيع عامل متمرس أن يجمع 600 كيلوغرام من الفلين كل يوم. وبعد الحصاد تُدمغ الشجرة برقم كبير أبيض يشير الى تاريخ قَشْرها، وتترك مدة تسع سنوات أو أكثر حتى ينمو لحاؤها الفليني مجدداً، ليبدأ حصاد آخر.
وقال لنا مدير المصنع في جزيرة سردينيا ان انتاج سدادات القناني يستأثر بأهم جزء من سوق الفلين. وتصنع كل سنة أكثر من 15 بليون سدادة فلينية لتلبية سوق الأشربة العالمية، أي ما يعادل 80 في المئة من حصاد الفلين. أما المنتجات الأخرى، مثل الأحذية و “البلاط” والألواح والمواد العازلة واللوازم الصناعية، فتصنع غالباً من إعادة تدوير الفلين المتخلف عن صنع السدادات. والفلين خفيف الوزن، صامد للماء، عازل جيد، وله صفات فريدة من حيث المرونة والمطاوعة والانضغاطية. وهو، فوق كل ذلك، قابل لاعادة التدوير ويتحلل بيولوجياً.
أنواع مهددة بالانقراض
غابات الفلين هي مصدر رزق أناس كثيرين في جزيرة سردينيا ، وليس فقط أولئك الذين يعملون في صناعة الفلين. فالمواشي ترعى تحت أشجاره. والمزارعون يجنون العسل من القفران التي يضعونها في غاباته، ويستعملون بلوط الفلين علفاً للحيوانات. وثمار التوت والعليق والعنبيات التي تنمو في ظلال أشجار الفلين تعطي غلالاً محلية أخرى. وغابات الفلين هي نموذج مثالي لنظام غابيّ عضوي مستدام، حيث يستغل المزارعون الموارد الطبيعية حولهم محافظين على القيم البيئية الرفيعة للنظام الايكولوجي.
مخاطر متوقعة
حصاد الفلين ممارسة قديمة في حوض البحر المتوسط تعود الى ألف سنة على الأقل. لكن صنع السدادات البلاستيكية والمعدنية بدلاً من سدادات الفلين الطبيعي يعرض للخطر غابات الفلين والمزارعين والكائنات البرية التي تعتمد عليها.
في أماكن كثيرة، استبدلت أشجار الفلين بأنواع من الزراعات والأشجار الأقل رأفة بالبيئة. وتحاول جماعات محلية ايجاد مصادر دخل بديلة مستفيدة من اعانات ضارة بالبيئة يقدمها الاتحاد الاوروبي، حتى تحولت مساحات كبيرة من الاراضي التي كانت تغطيها الغابات المتوسطية الى زراعات أخرى. ففي المغرب، مثلاً، تم استبدال أحراج فلّين قيمة جداً في غابة المعمورة الشهيرة شمال غرب البلاد بأشجار السنط (الأكاسيا) والاوكالبتوس القصيرة الأجل وذات الفائدة الاقتصادية والاجتماعية الضئيلة. ويؤدي تدهور الاراضي وتحويلها الى زراعات دخيلة ومكثفة، خصوصاً في شمال افريقيا، الى انهيار اقتصادات المجتمعات المحلية الريفية وانتشار الفقر وعدم الاستقرار الاجتماعي. ومن نتائجه تصحر المناطق الريفية، والهجرة منها الى المدن داخل البلاد وخارجها، وازدياد البطالة على المستويين الوطني والاقليمي.
ويحذر الصندوق العالمي للطبيعة من أن غابات الفلين ستفقد قيمتها الاقتصادية وسيتم التخلي عنها ما لم يكن هناك طلب مستمر على سدادات القناني الفلينية. وعند ابعاد حيوانات الرعي عن الغابات، ينمو العشب عالياً تحت الأشجار، وتغزوها شجيرات خفيضة، مما يعرضها للحرائق. وتشكل حرائق الغابات خطراً كبيراً في منطقة البحر المتوسط، حيث تدمر كل سنة ما بين 600 و800 ألف هكتار من الغابات. وغزو الشجيرات الخفيضة يؤدي أيضاً الى تراجع التنوع البيولوجي وخسارة موائل الأنواع النباتية والحيوانية المعرضة للانقراض. فعلى سبيل المثال، عندما تنمو المراعي أكثر من المعتاد، ترحل عنها الأرانب التي يتغذى عليها الوشق الايبيري. واضافة الى ذلك، فان استزراع الغابات بأشجار الاوكالبتوس والصنوبر يجعلها وقوداً سهلاً للحرائق، بخلاف أشجار الفلين المقاومة للنار. هناك نحو 340 ألف طن من الفلين تنتج سنوياً من غابات مساحتها 2,2 مليون هكتار في سبعة بلدان متوسطية، هي البرتغال واسبانيا وايطاليا وفرنسا والجزائر والمغرب وتونس. وتحتضن البرتغال ثلث أشجار الفلين في العالم، وتعتبر أكبر منتج ومصدّر لهذه المادة بمعدل 185 ألف طن سنوياً. وتنتج تونس نحو 9000 طن من الفلين من غابات مساحتها 78 ألف هكتار..