طليطلة – أسبانيا – د.جمال المجايدة :
انطلقت بنا السيارة من مدريد الي طليطلة في الصباح الباكر , وبدت المدينة أمامنا من بعيد بمثابة اطلال وسط الجبال , مشهد غاية في الروعة والجمال , وبدت طليطلة لنا وكانها تحفة فنية عملاقة نحتت في حضن الجبل !
وصلنا بالفعل الى مشارف المدينة التي تبعد عن مدريد 75 كليومترا رحنا نتجول سيرا علي الاقدام في احيائها وشوارعها الجميلة وقلاعها ومساجدها وكنائسها واسواقها وساحاتها ومقاهيها المنتشرة في كل زاوية وحارة !
الداخل إلى طليطلة عليه أن يمر من بابها العربي القديم الذي يسمى “باب السهل” ويسمى اليوم “بورتا دي بساغرا” وهو الباب الرئيسي الكبير لمدينة طليطلة ويعتبر ملتقى الطرق المؤدية إليها كما يعتبر من الأبواب الأندلسية القديمة. وفي سنة 1550 عملت له واجهة كبيرة من قبل المعماري كوبا روبياس تكريما للملك كارلوس الأول، ثم وسّع الباب في زمن الملك فيليب الثاني وعمل له برجان كما نصب على واجهته شعار يحيط به نسر ذو رأسين. وعلى مسافة قليلة من باب السهل، ونحو الشرق، ينتصب هناك باب آخر يدعى باب الشمس. ويذكر أنه قد شيد في زمن المأمون ذي النون حاكم طليطلة في بداية القرن العاشر.
ويعتبر هذا الباب من أجمل الأعمال العمرانية التي خلفها العرب في المدينة، ويعود الفضل في ديمومته إلى الترميمات التي أجريت عليه في الفترة الأخيرة. ونشاهد على واجهة الباب قوسا كبيرا على شكل حدوة الحصان وفي أعلاه أقواس أخرى متقاطعة وخماسية، كما يوجد على الواجهة شمس وقمر منحوتان على حجر المرمر، وربما جاءت تسميته من ذلك.
كاتدرائية طليطلة
وامضينا وقتا طويلا بجوار كاتدرائية طليطلة التي شيدت بين 1226-1493 على غرار كاتدرائية بوورج وتضم مكتبة كاتدرائية طليطلة ملايين المخطوطات والوثائق من القرنين الثامن والحادي عشر.
وتتميز طليطلة على بقية المدن الإسبانية بأن فيها واحدا من أكبر الأسواق في العالم الذي يضم تحفا وهدايا خاصة ذات الطابع الأندلسي، وهي تشتهر كذلك بمصانع السجاد والسيوف والحفريات والعديد من الصناعات ذات المهارة اليدوية.
كما زرنا منزل الفنان التشكيلي والمصور المعروف (ال غريكو 1540 م ) وقد وهو بمثابة متحف يكتظ بالزوار، خاصة الأجانب. وقد رسم ال غريكو مئات اللوحات الفنية بأسلوب تعبيري رائع وألوان انطباعية أحيانا وكانت غالبية مواضيعها دينية.
وزائر طليطلة اليوم يشاهد ويجد آثار التقاليد الصناعية العربية تباع في أسواقها مثل التحف الفنية النادرة والمصنوعة بمهارة ، مثل مقابض السيوف المزينة بالعاج والأحجار الكريمة، كما لازال أهل طليطلة يحتفظون بتقاليدهم وعاداتهم الإنسانية الكريمة .
واشتهرت طليطلة بالصناعات الحرفية منها حرفة التطعيم سواء كان ذلك بالذهب أو الفضة أو الرصاص أو غيره، وقد جلبها العرب إلى أسبانيا وأصبحت تزين بها السيوف والخناجر والدروع وغيرها، واشتهرت بصناعة الخزف وأحواض الحمامات ذات الألوان الخضراء والزرقاء، كما اشتهرت بصناعة الحلوى العربية حتى اليوم، ومنها ما يسمى ماثابان، وهو نوع يشبه البقلاوة.
طليطلة .. توليدو
طليطلة بالإسبانية هي توليدو ، و عرفت باسم طليطلة أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا. وهي عاصمة مقاطعة طليطلة و منطقة كاستيا لا منتشا في وسط إسبانيا . يبلغ عدد سكانها حوالي 73,000 نسمة.
وتقع على مرتفع منيع تحيط به أودية عميقة وأجراف عميقة، تتدفق فيها مياه نهر تاجة. ويحيط وادي تاجة بطليطلة من ثلاث جهات مساهما بذلك في حصانتها ومنعتها. اشتهرت أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا. حيث كانت مدينة أندلسية عريقة في القدم, اسم طليطلة تعريب للاسم اللاتيني “توليدوث” وكان العرب يسمون طليطلة مدينة الأملاك لأنها كانت دار مملكة القوط ومقر ملوكهم .
زائر طليطلة يكتشف من طابعها العام انها مدينة قديمة وتبدو كانها متحف تاريخي طالته يد التحديث والتطوير في اخر القرن الماضي فقط ، ويغلب الظن أنها بنيت في زمن الإغريق. ازدهرت في عهد الرومان، فحصنوها بالأسوار، وأقاموا فيها المسرح والجسر العظيم. و بلغت طليطلة ذروتها في عصر الخلافة الإسلامية عندما كانت جميلة ، مزيج من الفن والعلم.
وكانت تعرف في القرون الوسطى باسم “مدينة التسامح” حيث كان يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون. ويرجع اسم المدينة إلى العهد الروماني، حيث كان يطلق عليها اسم “توليدو” وتعني بالرومانية “المدينة المحصنة !
طليطلة كانت العاصمة الأسبانية من سنة 1085 الي ان جاء فيليب الثانى ملك اسبانيا و نقل البلاط الملكي الي مدريد سنة 1561.
ولانها متحف تاريخي كما اسلفنا فقد اعلنت اليونسكو مدينة توليدو او طليطلة موقع تراث عالمى سنة 1986 , نظرا لوجود التراث الثقافى الضخم فيها ,و بوصفها واحده من العواصم السابقه للامبراطوريه الاسبانيه و مكان لتعايش الثقافات المسيحيه واليهودية والمغاربيه .
المدينة في يد طارق بن زياد !
كانت طليطلة قاعدة الغوط ودار مملكتهم، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ نشأتها والأقوام التي شيدتها واستوطنتها. ويذكر المؤرخون بأن معنى طليطلة هو “فرح ساكنيها” وذلك لعظمتها وموقعها المميز والحصين حيث تقع على قمة جبل، ويلتف حولها نهر التاجة العميق من جهاتها الثلاث ماعدا الجهة الشمالية.
افتتحها طارق بن زياد سنة 92 هجرية (711 م)، وضمن توزيع القبائل العربية على المدن الأسبانية، كانت طليطلة من نصيب القبائل اليمنية، وكانت الثغر الأوسط والمهم في شبه الجزيرة، وقد اتخذت في بادئ الأمر مقرا لأهم القيادات العسكرية الإسلامية في هذه المنطقة.
وفى عهد محمد بن عبد الرحمن الأوسط عام (233هـ) خرجت عليه طليطلة فبرز إليها بنفسه وهزمهم، وانتظمت في عهد خلافة عبد الرحمن الناصر، وازدهر فيها فن العمارة.
عندما سقطت الاندلس في يد المسلمين لم يعمدوا إلى القضاء على المسيحية فورا. ومن المعتقد أن بناء كاتدرائية طليطلة تحول للمسجد الرئيسي لمدينة طليطلة. بعض المحققين أن نشير إلى أن قاعة الصلاة من المسجد يتطابق في الشكل مع الكاتدرائية الحالية.
كان من أبرز ما قدّمه موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد من الغنائم التذكارية النفيسة مائدة تفوق قيمتها كل تقدير، كان طارق بن زياد قد غنمها من كاتدرائية طليطلة، وكان القوط قد تفننوا في صنعها فنسبها العرب إلى سليمان بن داود، وإنما أطلق عليها هذا الاسم كناية عن قدمها وعظم شأنها.
ابرز من معالم المدينة
اصبح الكازار (القصر بالعربية) في طليطلة ذا شهره عالمية في القرنين التاسع عشر والعشرين على النحو كأكاديميه عسكرية.. عند اندلاع الحرب الأهلية الأسبانية في 1936 دورته حامية بشكل مشهور كان الكازار محاصرا من قبل قوات الجمهوري .
لقد كتب أحد المفكرين الأسبان واصفا أهمية القصر والمدينة بالنسبة إلى أسبانيا، فقال: “إذا كانت طليطلة زهرة أسبانيا فإن القصر زهرة طليطلة”. يذكر أن القصر أثر روماني قديم وعندما دخل المسلمون المدينة جددوه وحصنوه وجعله الحكم بن هشام، أمير الاندلس، سنة 797 م مقرا للإدارة والحكم. ويقع القصر في أعلى مكان من المدينة، وفي القسم الشرقي منها، وقد اتخذ هذا القصر صفة عسكرية ومقرا للحكم. كان مربعا أو مستطيل الشكل ومحاطا بأبراج مربعة الشكل .
مسجد نور المسيح
مسجد باب المردوم أو مسجد نور المسيح هو من أقدم معالم طليطلة .تم بناؤه في سنة 390 هجرية (999 ميلادية). بعد احتلال المدينة من قبل الاسبان سنة 1085 م ، حوّل المسجد إلى كنيسة تسمى نور المسيح.
المسجد بناء مربع الشكل مقسم إلى 3 أرواق بواسطة 4 صفوف من الأقواس, الكل تحت تسعة قبب مسندة إلى صفوف الأقواس الحدوية (على شكل حدوة الفرس, التي تعد من أهم خصوصيات الطابع المعماري الأندلسي ذات الأصل القوطي) المرتكزة على 4 أعمدة وسطية. القبة الوسطية مرتفعة عن باقي القبب و مزودة بنوافذ جانبية وسمح بدخول الضوء إلى البناء الذي يعد من أجمل شواهد الفن الأموي في الأندلس و مصدر وحي للفن المدجّن الذي كانت طليطلة موطنه الأصلي .
مسجد تُرنِرياس هو من أقدم معالم طليطلة . يرجع تاريخ بناؤه إلى القرن الحادي عشر للميلاد (عهد طائفة طليطلة) يقع في الشارع الذي يحمل نفس الإسم.
المسجد مبني بالآجور و متكون من طابقين٬ الطابق الأرضي يحتوي على بقايا مجمع روماني قديم ذو نظام لجلب الماء٬ بينما الطابق العلوي يحتوي على قاعة الصلاة. بنيته شبيهة للتي نشاهدها في مسجد باب المردوم الذي يقع على بعد بضعة عشرات الأمتار. مثل هذا الأخير قاعة الصلاة مقسمة إلى تسعة فضاءات٬ بواسطة أعمدة نحيفة و أنيقة٬ يعلوها أقواس حدوية الشكل. فوق كل فضاء قبة٬ القبة المركزية هي الوحيدة التي تحمل نقوش هندسية..
كنيسة سان رومان الواقعة في طليطلة, و تم إعادة بنائها كليتاً في القرن الثالث عشر و إلحاق المنارة القديمة للمسجد بها. المنارة ذاتها التي أعلن منها حسب الأسطورة ألفونس الثامن ملكاً على قشتالة و هو لا يزال طفلا في حادي عشر من عمره.
المعلم في حد ذاته ملخص للمدينة لما يحمله من تداخلِ في أشكال الفن المعماري و التشكيلي, الكل في تناسق فريد بين الطابعين الرومي و الأموي, من خلال الرسوم الحائطية الدينية المسيحية بين الأقواس الحدوية (على شكل حدوة الفرس, التي تعد من أهم خصوصيات الطابع المعماري الأندلسي ذات الأصل القوطي) والمشربيات المحاطة بالنقوش الإسلامية النباتية الشكل. وفي الجزء الغربي من المدينة يقع المعبد اليهودي المسمى سانتا مارية البيضاء، ويلاحظ أن معظم المعابد اليهودية مبنية على الطراز الإسلامي وبعضها على طراز المسجد بعقوده وأروقته وأعمدته وأقواسه وحتى الزخارف العربية كما نشاهدها في المعبد اليهودي . ولاتزال بضع مئات من العائلات العربية واليهودية تعيش في المدينة منذ ايام الفتح الاسلامي وحتي يومنا هذا وتعمل العربية في صناعة الحلويات والتجارة فيما اليهودية تمتهن تجارة الذهب والفضة والمشغولات اليدوية .