البندقية الايطالية .. أسطورة الماء!

أنت الآن تشاهد البندقية الايطالية .. أسطورة الماء!

البندقية – د.جمال المجايدة :

وصلت الي البندقية ( فينسيا (عاصمة إقليم فينيتو الواقع في شمال شرق إيطاليا ظهرا قادما اليها من ميلانو ,

لم أمكث في الفندق سوى بضع دقائق لكي اذهب لاستكشاف البندقية ,  هي اسطورة الماء ولاتوجد فيها طرق مرصوفة او سيارات  فالمدينة التي يقدر عدد سكانها 271 الف نسمة، عبارة عن عدة جزر متصلة ببعضها عن طريق جسور و تطل المدينة على البحر الأدرياتيكي. 

ماهي سوي يضع دقائق حتي انطلق بنا الزورق مع سياح من شرق وغرب ليجوب بنا معالم المدينة العتيقة التي تعتبر من اهم المدن الايطالية ومن أكثر المدن جمالا في إيطاليا لما تتمتع به من مباني تاريخية يعود أغلبها إلى عصر النهضة في إيطاليا و قنواتها المائية المتعددة ما يجعلها فريدة من نوعها على مستوى العالم. كانت تتمتع البندقية بحكم ذاتي اثناء العصور الوسطى وما بعد ذلك و كانت تسمى جمهورية البندقية و تعتبر من اهم مرافئ أوروبا تجاريا واثناء الحملات الصليبية و تتمتع بقوة بحرية هائلة.

البندقية هي عبارة عن أكثر من مئة جزيرة ملتصقة كانت وما زالت من أصعب أماكن التنقل عمليا وهندسيا. طرق التنقل في البندقية محصورة في القوارب الكلاسيكية المتوفرة بكثرة في المدينة والتي يطلق عليها الجندولة أو الجناديل وبعض الشوارع خارج قلب المدينة وفي القرن التاسع تم توفير سكة حديد إلى البندقية وتقع خارج مركز المدينة أيضا. في القرن العشرين تم بناء شارع رئيسي يوصل إلى المدينة ومواقف عامة. تعتبر المدينة مثالية من ناحية عدم استخدام السيارات والشاحنات على مستوى أوروبا والعالم .

لاحظنا خلال الجولة ان البندقية التي اختلطت جدرانها بمياه البحر مشكلة لوحة فنية رائعة تجذب آلاف السائحين من كل بقاع الأرض لزيارتها وملامستها وقراءة ما فيها في محاولة لاكتشاف سر بقائها واحتضان البحر لها منذ العام 420 ميلادياً، وسر جاذبيتها التي أثارت فضول العالم، والتعرف الى ملامح صورتها المنعكسة على صفحة مياه البحر الادرياتي.

جزر متناثرة

بيوتها وأبنيتها تشكل مجموعة جزر متناثرة تربطها قوارب ومراكب متعددة الأغراض والأنواع والعصور، أشهرها (الجندول) الذي لا يعرف صوت ماكينات الدفع الحديثة، حيث ما زال قائده يعتمد على مجداف خشبي طويل لتسييره، وهو خاص برحلات التنزه وسط الأزقة والشوارع الضيقة، إلى جانب مجموعة من الحافلات المائية مختلفة الأحجام والتي ترسو على جنبات القنوات المائية في محطات معروفة يقصدها المتنزهون والزوار وأهل المدينة.

وتخلو تلك المدينة من وسائل النقل البرية اللهم إلا في بعض الجزر الرئيسية التي تشطرها الشوارع المعبدة، غير أن تلك الوسائل محدودة النطاق، مثلها مثل القطار الوحيد الذي يربط البندقية بالمدن الإيطالية الأخرى، 

في مدينة يحتضنها البحر عليك أن تترك نفسك وعينيك تتخيلان عمق الدفء بين أبنية قديمة صامدة وتلك الشوارع والأزقة المائية، وأن تستوعب مقدار الفتنة التي تكسو ملامح البندقية، عليك أن تعيد النظر في كل ما قرأت عن المدينة، وكل ما شاهدت من مغامرات رومنسية دغدغت بها السينما العالمية مشاعر كل من اقبلوا على أفلام روائية تعكس وجهاً من حضارة فينسيا، عليك أن تطأ تلك الشوارع التي قطعها جيمس بوند في أحد وأهم أفلامه، وأن تجعل من نفسك رحالة لتكتشف المزيد من السحر، فشوارع البندقية وأزقتها تسلب قلبك كلما ابتعدت عنها.

في البندقية كل البساطة، فكل الطرق المؤدية إليها سواء البرية أو المائية بسيطة، حتى بيوتها الحمر التي تكسوها الخضرة والزهور بسيطة، أبسط من ابتسامات أصحاب المحلات وهم يروجون لبضاعتهم وسط السائحين، ومن بشاشة وجه قائد الجندول الذي يصطحب الوافدين إلى مدينته في أزقة يصعب السير فيها إلا بهذه الوسيلة التي استيقظ أهل المدينة عليها قبل قرون ليجدوها منفذهم الوحيد إلى الخروج من البيت.

 هناك في الوسط التاريخي تلامس عيناك التاريخ في عمق وفي دفء وفي حياة متجددة، وتداعب خاطرك حتى لا ينسى ما تلتقطه عيناك من مشاهد ومظاهر الفرح والبهجة والعزف الموسيقي الذي يتميز به اشهر ميادين البندقية والذي يحمل اسم القديس  سان ماركو .

وفي الميدان نفسه حيث يتلاصق العزف الموسيقي مع الأبنية القديمة بما فيها الكنائس، عليك أن تسجل السيمفونيات المعزوفة من مختلف الفرق الموسيقية أمام اشهر مقاهي العالم وهي تتلاقى في مقطوعة واحدة تشبه تناغم جدران البيوت والأبنية ومياه البحر.

في سان ماركو   

تقول المراجع التاريخية إن البندقية تأسست في العام 420 ميلادياً، وكان أول سكان لها من اللاجئين الذين زحفوا إليها من مناطق رومانية، وعرفت البندقية انتخاب أول زعيم لها العام ،697 وانضمت إلى ايطاليا رسمياً العام 1866.

ويشير إلى أشهر معالمها السياحية وهو ميدان  سان ماركو  الذي يحتضن  رفاته التي يروى أنه تم نقلها من الاسكندرية. وتأسست الكنيسة في القرن التاسع للاحتفاظ برفات القديس ماركو الذي يرقد هناك الى جوار قصر حاكم البندقية الذي أحرق مرات عدة في قرون متعاقبة إلى أن انتهى تشييده كاملاً بين القرنين الخامس العشر والتاسع عشر.

لم نشعر كيف مر الوقت ونحن نشاهد اسراب الحمام تحوم حول الاطفال الذين ينثرون لها الذرة الحمراء او القمح وسط بانوراما من الفرح لامثيل لها في اي مكان اخر !

ويقال أن ثمة 3 آلاف طريق في قلب البندقية التي تضم 400 جسر، والطرق أو القنوات المائية أو الشوارع باختلاف مسمياتها ضيقة وأكبر طريق أو قناة مائية هي المعروفة باسم  القناة الكبرى  ويبلغ طولها 4 كيلومترات، أما اشهر الجسور فهو  ريالتو  الذي يكتسب شهرته من كونه شيّد فوق تلك القناة، ولأنه يؤدي إلى أهم أسواق ومحلات البندقية.

ويعتبر الجندول واحد من أهم المعالم السياحية للبندقية ويصفه بالمركب المتميز، ووفقاً للإحصاءات الرسمية التي يذكرها شهد الجندول مراحل انقراض  ربما لتوقف صناعته أو لإحلال المراكب والحافلات المائية السريعة بدلاً منه في كثير من الطرق والشوارع ولا سيما الرئيسية، فالجندول الذي يبلغ طوله 11 مترا وعرضه 120 سنتيمتراً ويشكل تكوينه 120 قطعة تمثل ثمانية أنواع من الخشب، مازال يعمل بالطريقة اليدوية ويستخدم قائده مجدافاً خشبياً طويلاً للإبحار عبر طرقات وشوارع ضيقة، وقد وصل عدده في العام الجاري إلى 400 جندول بعدما كان 14 ألفا في القرن الثامن عشر.

من الواضح ان اقتصاد المدينة يقوم على الخدمة السياحية وهي محدودة في الفنادق والمقاهي والمزارات السياحية والمحلات والقوارب وغيرها من الحافلات المائية، وليس هناك أية صناعة سوى صناعة الزجاج، وهذه الصناعة على وجه التحديد مغلقة على عدد من العائلات التي تحتفظ بأسرارها، أي أن فرص العمل خارج نطاق السياحة معدومة.

 فيوريال

قالت لي احدي السائحات انه لا يمكن زيارة البندقية دون تناول القهوة الايطالية اكسبرسو أو كابوتشينو مع الحلويات التقليدية , وهكذا فعلت وجلست  في مقهي  تاريخية اسمها (فيوريال) من القرن التاسع عشر في ساحة سان ماركو ويرتادها على الدوام الفنانون والسياح وعشاق التاريخ وقيل لي ان من أشهر زبائنها الموسيقار الالماني فاغنر الذي ألف جزءا من الاوبرا العاطفية «تريستان وايزولده» في تلك المقهي وتوفي في البندقية التي كان يعشقها عام 1883.

ولكن السؤال الذي يتردد علي السنة العديد من الزوار / هل فينيسيا تغرق فعلا بمعدل ستة سنتيمترات كل عشر سنوات ؟ وهل تفسد ثلث كنوزها الفنية النفيسة كما يقال بسبب التلوث؟ صحيح ان فينيسيا في خطر بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر وبعض السكان هجروا الطوابق الارضية خشية الغرق , لكن حين نظرت الى أهلها وهم يسيرون رافعي الرؤوس فهو شعب يقبل التحدي وسيبقى في مدينته النادرة على مر الزمان لان اجداده تحدوا الطبيعة بعد هروبهم من البرابرة وبنوا اجمل مدينة على جزر متناثرة في وسط مستنقع كبير !!

مدينة الاساطير !

تقول الاسطورة إن على الزائر لمدينة البندقية للمرة الاولى أن يأتي بصحبة زوجته لا خطيبته ولا صاحبته لان الزيارة لن تنتهي بالزواج لشدة ما فيها من اغراء فالبندقية كما يسميها العرب مدينة جميلة لا مثيل لها في العالم بنيت على الماء في وسط بحيرة اسنة ولها الان 12 مليون موقع على الانترنت وتتكون من 116 جزيرة وفيها 416 جسرا و7 الاف شارع وتبدو أبنيتها وكأنها لونت استعدادا لعرض مسرحي فالواجهات مزينة ومزخرفة يمكن للمسافر أن يستمتع برؤيتها من السفينة أو قارب الجندول الذي يعبر الشوارع المائية  مما دعا الكاتب الالماني غوته الى وصف القناة الكبيرة بأنها أجمل شارع في العالم. وطالما يتحدث الناس عن أسرار البندقية ومن ذلك الحديث عن بيت النحس المصاب باللعنة فقد بنى جيوفاني داريو من عائلة غير نبيلة قصرا بديعا منذ عدة قرون على شاطئ القناة الكبيرة وجعل واجهته من الرخام النفيس والمرمر لكن كل من سكن فيه انتهى بالافلاس أو الانتحار ومنهم تاجر أرمني كان يتعاطى تجارة الاحجار الثمينة وآخرهم راوول غارديني الثري الايطالي الذي انتحر قبل 13 عاما اثناء فضيحة الايادي النظيفة في ايطاليا .

ومن أسرار البندقية ايضا أن شارع الشيطان قد سمي بهذا الاسم لانه يتفرع من جسر الشيطان حيث يغرق الكثيرون لخطورة العبور. ومن عجائبها أنها مليئة بالقطط ولكل قهوة قطة للحراسة وقد اتوا ببعض الانواع الشرسة من سورية وفلسطين لانقاذهم من الجرذ والفئران التي سببت الطاعون في القرون الوسطى لذا ما زالوا يعتقدون أن القط يجلب الحظ !

اقنعة وتخفي !

ويقال ان التخفي بالاقنعة عادة من أيام الرومان وحفلاتهم المترفة التي تسمح بالجنون وارتكاب الحماقات واحتفظت البندقية اي فينيسيا بهذه التقاليد وكان القناع يصنع من الفخار أو الجص عام 1270 ثم سنت جمهورية البندقية في القرن السابع عشر قانونا لمنع سوء استعمال القناع لان البعض كان يضعه ويضيف اليه لحية مستعارة امعانا في التخفي لرغبته بعدم الافصاح عن شخصيته اثناء توقيع عقود البيع والشراء أو خيانة الزوجة .

 البندقية مدينة عريقة

كانت هذه المدينة تتطلع دوما الى الشرق وأهلها يحبون البذخ والاسراف ويقدرون الفن الرفيع، وللبيزنطيين اثار وكنائس لا تحصى اينما توجهت فيها. ومن اعلام الموسيقى الذين أنجبتهم المدينة الموسيقار فيفالدي صاحب قطعة الفصول الاربعة والرسامين تزيانو رائد الفن التصويري في القرن السادس عشر بثورته الفنية التي استخدمت التدرجات اللونية وكاناليتو الذي كرس نفسه لتصوير مشاهد المدينة بلوحات رائعة وكذلك الكاتب المسرحي غولدوني مؤسس الملهاة الحديثة.

ومن أشهر ابنائها الرحالة ماركو بولو الذي وصل الى الصين عن طريق سورية وعبر مضيق هرمز متبعا طريق الحرير مرورا بالتيبت ثم عاد الى البندقية ويقال إنه أدخل اليها السباغيتي والمعجنات كما جلب الزنجبيل. ولا ننسى ايضا العاشق المغامر كازانوفا منافس دون خوان في اساطير الغرام وخلد شكسبير المدينة بمسرحيته العظيمة /تاجر البندقية/ التي تحولت الان الى فيلم سينمائي من بطولة آل باتشينو .