باكو – جمال المجايدة :في العاصمة الأذربيجانية باكو، لا يقتصر الحضور الثقافي على المتاحف ودور النشر، بل يمتد ليطبع ملامح المدينة نفسها، حيث تنتشر التماثيل والنُّصُب التذكارية التي تُخلّد كبار الشعراء والأدباء الأذربيجانيين، كجزء من مشروع وطني يعكس اعتزاز البلاد بإرثها الأدبي العريق.
من خلال هذه المبادرات، تؤكد أذربيجان أن الثقافة ليست حبيسة الكتب، بل هي حاضرة في الشوارع والساحات، تعيش مع الناس، وتذكر الأجيال الجديدة بعظمة من سبقوهم.
تماثيل تروي سيرة أدبية
في جادة نزامي الشهيرة وسط باكو، تنتصب تماثيل شعراء وأدباء كبار شكّلوا ركائز الأدب الأذربيجاني. وأبرز هذه الرموز الشاعر نِظامي الكنجوي (نظامي كنجوي)، الذي يُعد من أعظم شعراء العصر الذهبي في الأدب الفارسي والأذري، ويُكرّم بتمثال مهيب يتوسط ساحة خاصة تحمل اسمه، وهو محاط بحدائق ومكتبة وقاعة معارض ثقافية.
كما تبرز تماثيل لشعراء آخرين مثل محمد فضولي، الذي كتب باللغات التركية والفارسية والعربية، وترك تأثيرًا عميقًا في أدب الحب والفكر الصوفي. ولا يغيب عن المشهد تمثال خاقاني الشيرواني، أحد رموز الشعر الفلسفي، إضافة إلى ميرزا فتح علي آخوند زاده، الرائد في المسرح والنقد الاجتماعي في أذربيجان.
الفن التشكيلي في خدمة الذاكرة الأدبية
لا تقتصر النُّصُب التذكارية في باكو على التماثيل التقليدية، بل تُعبّر عن حس فني متجدد. فقد صُممت العديد من هذه الأعمال بتقنيات معمارية ونحتية حديثة تمزج بين الرمز والواقعية، لتمنح الناظر تجربة بصرية وثقافية في آن واحد. وغالبًا ما توضع هذه التماثيل في مواقع استراتيجية: أمام المكتبات الوطنية، أو بالقرب من المؤسسات الثقافية، أو في الساحات العامة، مما يعكس أهمية الأدب في الحياة اليومية الأذربيجانية.
ثقافة الاعتراف والتكريم
اهتمام الدولة الأذربيجانية بإقامة النُّصُب التذكارية لا يُنظر إليه كحركة جمالية فقط، بل كسياسة ثقافية واعية تهدف إلى ترسيخ القيم الوطنية، وتعزيز الهوية الثقافية في مواجهة تحديات العولمة. ويُعد هذا التكريم تجسيدًا حقيقيًا لثقافة الاعتراف، حيث يُمنح الأدباء حقهم في الذاكرة العامة، وتُترجم كلماتهم وأفكارهم إلى معالم مرئية تخلد حضورهم الرمزي.
وتُقيم باكو بين الحين والآخر فعاليات أدبية وموسيقية بجوار هذه النُّصُب، كنوع من التواصل الحي مع إرثهم، فيُقرأ الشعر ويُعزف الموسيقى وتُستعاد القصص التي كتبها أولئك العظماء.
بعد ثقافي وسياحي
لا تقتصر أهمية هذه النُّصُب على البعد الثقافي فقط، بل تُسهم في إثراء المشهد السياحي للمدينة. فالزائر الذي يتجول في شوارع باكو لا يكتشف فقط مبانيها الحديثة وأسواقها النابضة، بل يطالع وجوهًا من الماضي محاطة بالاحترام. وتُعد هذه التماثيل نقاط جذب للمهتمين بالأدب والتاريخ، كما توفر خلفيات مميزة للصور التذكارية، مما يعزز تجربة الزائر في المدينة.
مدينة تحتفي بالكلمة
تُجسّد النُّصُب التذكارية في باكو نموذجًا فريدًا لمدينة تضع الكلمة المكتوبة في مقام الحجر والبرونز. ففي أذربيجان، لا يُنسى الأدباء بعد رحيلهم، بل يخلدون في قلب المدينة، ليظلوا مصدر إلهام دائم للأجيال القادمة. إن هذا التكريم العلني لشخصيات الأدب يثبت أن باكو لا تحتفي فقط بتاريخها المعماري أو ثرواتها الطبيعية، بل بروحها الثقافية التي لا تزال تنبض في الساحات والحدائق، وبين سطور القصائد والكتب.
انطباعات شخصية
في زيارتي لمدينة باكو، لفت انتباهي الحضور الطاغي للثقافة في الفضاء العام، وتحديدًا عبر النُّصُب التذكارية التي تُخلّد رموز الأدب الأذربيجاني. توقفت طويلاً أمام تمثال الشاعر نِظامي الكنجوي، أتأمل ملامحه البرونزية التي جسدها النحاتون بحس فني عالٍ، وكأنهم أرادوا أن يمنحوا الكلمة المكتوبة روحًا مرئية.
كانت لحظة تأمل عميقة؛ أن تجد في وسط مدينة عصرية هذا الوفاء لشاعر عاش في القرن الثاني عشر، يدل على عمق تقدير الأذربيجانيين لمثقفيهم، وعلى وعي ثقافي متجذر لا ينفصل عن حاضرهم. ومثلما قرأت في قصائد نِظامي وفضولي عن الحب والحكمة، شعرت أن المدينة ذاتها تُجسد هذه القيم في طريقة تعاملها مع تراثها. التماثيل ليست مجرد حجر، بل ذاكرة حيّة تسكن الأرصفة. شعرت أنني لا أتجول فقط في شوارع باكو، بل أمشي بين صفحات من كتاب مفتوح، تتنفس فيه الثقافة مع الهواء، وترافق الزائر في كل زاوية .





