جوهانسبرغ – د.جمال المجايدة :
الرحلة من ابوظبي الي جنوب افريقيا استغرقت ثمانية ساعات ونصف الساعة , لتحط الطائرة عجلاتها في مطار جوهانسبرغ الدولي , ونبدأ بعدها مغامرة , مليئة بالمفاجات , هناك في ارض الذهب والحضارات المختلطة, هناك بعيدا في قارة الاعاجيب , حيث تتربع دولة شاسعة علي محيطين !
نسمات الهواء الباردة انعشت النفس الحبيسة داخل الطائرة طيلة الليل , وخيوط اشعة الشمس الذهبية تؤذن بصباح يوم جميل في تلك الدولة- القارة النائمة علي شواطئ اكبر محيطين في الكرة الارضية هما الاطلسي والهندي ,
بعد الوصول توجهنا في الباص السياحي الصغير الي مدينة بريتوريا العاصمة السياسية لجنوب افريقيا لنصل بعد 35 دقيقة الي فندق (شيراتون بريتوريا ) الانيق المطل علي قصر الرئاسة المنيف وحدائقه الخضراء اليانعة , لتبدأ معه الرحلة الحقيقة .
في تلك الاثناء كانت Gerda potgieter مسؤولة هيئة السياحة لمدينة ((TSHWANE التي تضم بريتوريا وضواحيها جاهزة مع مرشدة سياحية للانطلاق في الرحلة الي معالم المدنية الواسعة الارجاء والخضراء علي مرمي البصر . غير ان اكثر مايلفت الانظار في شوارع بريتوريا , انها محاطة علي الجانبين بشجرة ( الجاكراندا ) ذات الزهور البنفسجية التي تميل الي الزرقة والاغضان الرمادية الخضراء , ويقال ان هناك اكثر من 70 الف شجرة جاكراندا في المدنية وحسب المرشدة السياحية فان الافا من السياح اليابانيين والكوريين والاوروبيين يزورون تشواني سنويا لرؤية ازهار الجاكاراندا في فصل الربيع الذي يبدأ عادة من اغسطس الي نوفمبر من كل عام . والشتاء القارس عندهم بالمناسبة في اشهر مايو ويونيو ويوليو , اما الصيف فيبدا في ديسمبر ويصل في ذروة حرارته في يناير أي في الوقت الذي يكون فيه العام متجمدا وميتا من البرد !
سفاري في كواتالا :
قادتنا الرحلة الي ( كوالاتا غيم رانش Kwalata Game Ranch- ) وهو منتجع راق مشيد , باسلوب قبائل الزولو الافريقية التقليدية , وسط محمية طبيعية تعرف بهذا الاسم , استقبال يليق بالضيوف القادمين من بعيد اليهم , موسيقي وطبول في المكان , الشمس في تلك اللحظات كانت تميل الي الغروب , اقترحت ان ينتهي الجميع من تناول المرطبات واخذها معهم في حافلة مكشوفه من جميع الجوانب للقيام بجولة في المحمية , السائق طبعا هو ايضا مرشد سياحي للمحمية لايخشي المجهول , اخصائي في الحيوانات , فهو يعرف انواع واسماء الحيوانات المتوحشة التي تعيش في المحمية ويعرف اين تنام واين تتوالد واين تاكل , يشرح لنا كيف تنام الزراف ليلا علي الاجل الاربع , والزراف كما علمنا من السائق يزن الواحد منها اكثر من الف ومائتي كليوغراما!
الجولة الساحرة
النعام يتراكض علي وقع عجلات السيارة التي كانت تسير ببط ء شديد والزراف العملاق يبتعد الي الوراء لانه يظن – كما قال السائق – ان السيارة وحش عملاق , الحيوان الوحشي يعزف علي وتر الطبيعية بالوانه الجميلة , والبقر الوحشي وحيوان الرنة والغزلان تتراكض مسرعة خشية الصيد المحظور قطعا في المحمية !
سحر الطبيعة كان مخيما علي الوجوه الكل يتامل ويرصد حركة الحيوانات واصوات الطيور في البرية الشاسعة الخضراء واشعة الشمس قبيل الغروب الطويل تسحر الالباب , وبصراحة لم اشاهد في حياتي غروبا طويلا وجميلا مثل تلك الذي رأيته في المحمية الجنوب افريقية , الغروب يبدأ من الخامسة والنصف مساء ويستمر حتي الثامنة , تكون فيها السماء برتقالية حمراء والاشجار الخضراء تميل الي السمرة والشق الاحمر يصبغ الغيوم البيضاء بلونه , لوحة تدعو الي الفكر والتامل لكل من يدقق في الطبيعة التي نجهلها باستمرار !
ياله من مشهد ياخذ الالباب لاحظناه بعد العودة من رحلة السفاري , نار واخشاب في موقد ضخم وسط المنتجع لاعداد العشاء , المشويات كلها لحوم لحيوانات وطيور من المزرعة الخاصة بالمنتجع , العشاء امتد لساعات ثلاث دون ان يشعر احد كيف مر الوقت مسرعا ! غير انه يظل في الذاكرة التي تمتلئ بالذكريات الجميلة عن جنوب افريقيا , في طريق العودة الي فندق شيراتون بريتوريا للمبيت هناك راح الزملاء يستذكرون مارأوه في المحمية من حيوانات وطيور- ربما – لم يشاهدوها من قبل , وتخيلوا – افتراضا- لو ان السيارة تعطلت وسط حشائش السافانا واشجار الكينيا والاكاسيا الصلدة , وجاء الاسد الي نومه باكرا او امتصي النمر الافريقي صهوة العربة ؟
جوهانسبرغ مدينة اشباح ! لماذا؟
بعد تناول افطار الصباح في مطعم ( مغنوليا ) الهادئ في شيراتون بريتوريا , انطلق بنا السائق ( بي جيه ) في حافلة صغيرة الي جوهانسبرغ , هناك تجولنا بالحافلة في احدي ضواحي الاثرياء والمشاهير , فيقول السائق بنوع من السخرية , هناك يقطن اغني اغنياء جنوب افريقيا باستثناء شخص واحد , لتكون المفاجاة ان الراحل الكبير (نيلسون مانديلا ) الذي يقطن في فيلا فخمة محاطة بالاشجار الضخمة وهي صفراء اللون جميلة ابوابها من خشب الزان , ويقيم فيها مانديلا مع زوجته الثالثة – وهي حرم رئيس موزمبيق الراحل – التي تزوجها وهو في الثامنة والسبعين من عمره .
(مانديلا ) لم يكن هو الذي قرر ان يترك العيش في بيته الصغير في سويتو , بل كبري شركات الصناعة وتجار الذهب والالماس واصحاب الاحتكارات الكبري قرروا له ان يعيش في الفيلا القصر بجوارهم , باعتباره رمز البلاد في العالم كله , وهم الذين دفعوا قيمة الفيلا القصر ويتحملون تكلفة الحراسة والكل نفقات العيش في الداخل .
يقول لنا السائق : انظروا , كل الذين يعيشون هنا يبدوا وكانهم يعيشون في سجون ! فعلا الفيلات الفاخرة والقصور محاطة بالاسلاك الشائكة المكهربة خشية من المجرمين واللصوص , ولايخرج الاولاد او النساء بدون حراسة في الليل او في النهار ! الامن الشخصي معدوم تماما في اوساط اصحاب المليارات فقط ! لذا فانهم ينفقون ملايين الدولارات علي الامن ولوازم الحراسة وتصفيح السيارات الخ خشية الموت من اجل حفنة دولارات علي يد اسود عاطل عن العمل , بصراحة انها مفارقة للعيش في تلك البلاد !
اطول شارع في العالم !
واصل السائق ( بي جيه ) الجولة في تلك الضاحية الثرية التي وصلنا اليها عبر شارع church الذي قيل انه اطول شارع في العالم , ويقول السائق : اتدرون من يعيش هنا ؟ ثم يجيب : بالطبع كلهم يهود واوروبيين من بريطانيا والمانيا وهولندا وبلجيكا ومن امريكا ؟
وقال وهو يقود الحافلة الصغيرة في الطريق الي جوهانسبرغ , ان جنوب افريقيا هي اكبر منتج في العالم للذهب والالماس ويوجد فيها 28 منجما للذهب , الا ان مناجم الذهب والالماس مملوكة بالكامل لامريكا واسرائيل وبريطانيا وليس لحكومة جنوب افريقيا او شعبها أي نصيب فيها علي الاطلاق ؟ وحسب قوله فان نسبة ال10% من البيض تمتلك كل ثروات جنوب افريقيا حتي الان ونسبة ال 90% من السكان الاصليين لايملكون سوي الوظائف الصغيرة والبطالة والفقر والجوع والتشرد , مع العلم ان جنوب افريقيا وصل عدد سكانها العام الماضي 35 مليون نسمه .
معلومات لابد منها !
ونحن نختم جولتنا في جنوب أفريقيا لابد من القاء نظرة علي واقعها الراهن ففيها أكبر عدد من السكان من ذوي الأصول الأوروبية في قارة أفريقيا كلها ، وتضم أكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، وأكبر مجتمع ملّون (ذوي البشرة السوداء) في قارة أفريقيا ايضا ، مما يجعلها من أكثر الدول تنوعا في السكان في القارة الأفريقية.
الكل يعلم ان النزاع العرقي والعنصري بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء شغل حيزا كبيرا من تاريخ البلاد وسياساته، وبدأ الحزب الوطني بإدخال سياسة الفصل العنصري بعد الفوز بالإنتخابات العامة لعام 1948؛ وكذلك كان ذات الحزب هو الذي بدأ تفكيك هذه السياسة عام 1990 بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء ومجموعات مناهضة للعنصرية من البيض والهنود .
جنوب أفريقيا من الدول الأفريقية القليلة التي لم تشهد إنقلابا على الحكم ، بل تشهد منذ انتصار الثورة السوداء استقرارا سياسيا ملموسا , والإنتخابات الحرة يتم تنظيمها منذ 1994 ، مما جعل منها قوّة مؤثرة في المنطقة وواحدة من أكثر الديمقراطيات إستقرارا في القارة الأفريقيّة .
وحسب المراجع التاريخية , كانت جنوب أفريقيا قد إستوطنهاالصيادون وأخذت قبائل الخوخو منذ 2000سنة في تربية المواشي التي حصلوا عليها من قبيلة البنتو . وبدأ الرجل الأبيض من الهولنديين المزارعين عام 1652 في إستيطان المنطقة داخل مستوطنات معزولة وانتشروا بها وكانت لهم لغتهم الخاصة التي كان يطلق عليها لغة أفريكانز ,وانفصلوا عن البانتو الذين عاشوا بالداخل .ووفد المستوطنون الفرنسيون والألمان وعاشوا وسط هذه المجتمعات فيما بعد وعرفوا بالأفريكانرز.
ومنذ مطلع سنة 1800 م وصل المستوطنون البريطانيون وجاء الهنود كعمال في زراعة قصب السكر في اواخر القرن 19وأوائل القرن العشرين. وفي أثناء هذا القرن جاءت أقلية برتغالية . وكان البيض قد احضروا معهم لجنوب أفريقيا ثقافاتهم ولغاتهم من أوروبا ولاسيما البريطانيين.
وجاء الآسيويون ولاسيما الهنود بثقافاتهمم . وفي جنوب أفريقيا 3000 موقع أثري لفن الصخور ترجع للعصر الحجري حيث رسمت الحيوانات وأشياء أخري . ويرجع تاريخ جنوب افريقيا قديما إلي إنسان( أوستالو بيثكس أفريكانس )وهو نوع من أسلاف البشر . والشواهد الأثرية تدل علي ان شعبي (بوش Bush )و(سان San) وخوخو قد عاشا في جنوب أفريقيا منذ آلاف السنين . وكان شعب بوش كان يعيش علي الصيد وجمع الثمار بينما كان شعب خوخو رعوي يرعي قطعان الماشية منذ عدة قرون قبل مجيء الرجل الأبيض.وكانت جماعات من قبائل البانتو قد هاجرت من وسط أفريقيا واستقرت في المنطقة الخصبة بين جبال دراكنزبرج والمحيط الهندي . وهؤلاء هم أجداد قبائل الزولو Zulu واكسهوزا Xhosa وسوازي Swazi , انه تاريخ عريق قائم قبل وصول المستوطنين , فلاعجب اذن ان ينتصر السود بعد مئات السنين من العزلة والمعاناة والاستبداد الاستيطاني الابيض و يكونوا حكومتهم الديموقراطية بعيدا عن النظام العنصري البغيض !