كلسي ابلز
بينما اقتحم الآلاف من أنصار الرئيس البرازيلي السابق جائير بولسونارو عاصمة البلاد يوم الأحد قبل الماضي، وفّرت هندسة برازيليا الحديثة خلفيةً لافتةً للفوضى. المدينة، التي صممها المهندس أوسكار نيماير والمخطط الحضري لوسيو كوستا في الخمسينيات وتُعد موقعاً من مواقع التراث العالمي التابع لليونسيكو، بدت للبعض كما لو أنها خرجت للتو من «فيلم بائس للخيال العلمي من الستينيات»، كما قال أحد المغردين على منصة تويتر. أعمال الشغب حدثت في محيط منطقة مهمة تاريخياً تعرف بـ«ساحة السلطات الثلاث».
المحتجون الحاملون للأعلام البرازيلية أحاطوا بسقف مبنى الكونجرس الوطني المصمم على شكل سلطانية. وقطع أثاث سقطت في المسابح العاكسة والأنيقة أمام القصر الرئاسي. والواجهة الزجاجية للمحكمة الفيدرالية العليا – وهي عبارة عن بنية هندسية ذات أعمدة رفيعة ومنحنية – أصابها التصدع وتشققت على نحو يشبه بيت العنكبوت. «لقد تأكد أن أعمال التخريب طالت عدة مناطق من هذه المباني، ما تسبب في انهيار مواد تراثية قيّمة»، هكذا قال فرع اليونيسكو في البرازيل في بيان، مضيفاً أن المنظمة «تتأسف لهذه الأحداث وترفضها بشدة».
وبالنسبة لفارس الدحداح، وهو أستاذ بجامعة «رايس» يكتب عن هندسة البرازيل الحديثة، فإن المشهد كان مزعجاً جداً، إذ يقول في رسالة عبر البريد الإلكتروني: «لم أكن أملك سوى أن ألاحظ المشهد المثير للسخرية المتمثل في رؤية مبانٍ تتعرض للنهب والتخريب في حين أنها مصممة أصلاً لكي تكون مفتوحة في وجه الجميع وسهلة الولوج». الهندسة المدنية – الأدراج الرخامية العظيمة المفضية إلى مبنى الكونجرس الأميركي، والقمم القوطية الجديدة لمبنى البرلمان المنتصبة والمطلة على نهر التايمز – تميل إلى أن تكون رمزية إلى حد كبير.
وبرازيليا كما تصوّرها نيماير وأرادها مثّلت رؤيةً طوباويةً للتقدم، مدينة بنيت على مُثل المساواة الشيوعية التي كان يؤمن بها إيماناً قوياً. ولكن بالنسبة لآخرين، تحولت المدينة، التي تحتضن معلماً عظيماً موالياً للحكومة وتتمحور حول السيارة، إلى شيء يكاد يكون سلطوياً. والحق أنه من الصعب إنكار جِدة تصميم برازيليا وتفردها.
وقد وصفتها منظمة اليونيسكو بأنها «نموذجٌ للتخطيط الحضري الحداثي في القرن العشرين»، وحين سئل حول مدينة أخرى تشبهها، قال الدحداح: «لا توجد مدينة أخرى تضاهيها». المدينة بنيت في منطقة سافانا جرداء وخرجت إلى الوجود من العدم في غضون سنوات قليلة. المدينة، التي كانت آنذاك جزءاً من مشروع التحديث الوطني الذي قاده الرئيسُ البرازيلي وقتذاك جوسيلينو كوبيتشيك، حين اكتملت أشغال بنائها، نقلت عاصمة البلاد الفدرالية من ريو دي جانيرو الساحلية إلى مركز البلاد.
وكان كوبيتشيك نظّم مسابقة دولية للتصميم في 1957. ورسم كوستا تصميماً سريعاً للمدينة عُرف باسم «بلانو بيلوتو» الذي تخيّل شكلها شبيهاً بطائرة أو بطائر أثناء الطيران، معبِّراً عن شعور بالتقدم. ويقول الدحداح: «إن الفراغات الواسعة والحركة بسرعات مختلفة تمثّل، في تصور كوستا، قيماً حضرية للوصول إلى الفضاء العام، قيما سيشعر بها الزائر ويعيشها».
كوستا جلب صديقه أوسكار نيماير إلى المشروع. ولعل هذا الأخير، الذي كان من الشغوفين بالخرسانة ومن المعجبين بالمهندس الفرنسي لوكوربوزييه، كان فناناً أكثر منه مهندساً تقنياً. وقد قال لصحيفة «ذا غارديان» ذات مرة: «إنني أحمل قلمي فيتدفق.. ثم يظهر مبنى». حينما صمّم نيماير برازيليا، أراد «تمديد متعة دخول المبنى»، يقول الدحداح. وعلى سبيل المثال، فإن الطرق الصاعدة والمنحدرة خارج مبنى الكونجرس الوطني كانت تهدف إلى «توسيع العرض المرئي لجمال المبنى». وبالنسبة لنيماير، كانت إمكانية الولوج أساسيةً بالنسبة لتصاميمه. فقلّص حجم دعامات المبنى، وجعل هياكل ثقيلة وكبيرة جداً تبدو خفيفة عبر رفعها في الهواء، وأزال عوائق أمام الدخول، وجعل الوصول إلى الأسطح ممكناً وسهلاً – مثلما أظهرت صور الشغب. ويرى الدحداح أن كل هذه السمات «تساهم في تحقيق أقصى قدر من الاختراق».
غير أنه على الرغم من طموحات المصممين، إلا أن الكثيرين يقولون إن المدينة لم ترقَ إلى طموحاتها. فالتصميم الصلب والجامد للمدينة (والذي كرّسته تسمية اليونيسكو) أدى إلى خلق مدن صغيرة محيطة بها وزحفٍ عمراني من أجل مواكبة وتلبية احتياجات سكان تزداد أعدادهم بسرعة. ومع مغادرة الكثير من العاملين في الليل إلى تلك المناطق، يقال إن برازيليا تفتقر إلى حيوية المدن البرازيلية الأخرى ونشاطها. وقد لعبت أشغال البناء الباهظة للمدينة الحديثة دوراً في خلق التضخم السيئ الذي واجهته البرازيل في الستينيات.
وفي 1964، حوّل الانقلاب العسكري (الذي حدث جزئياً نتيجة الوضع الاقتصادي غير المستقر) برازيليا من رمز لامع للتقدم إلى تحذير. وبينما يتولى «لولا» السلطة، فإنه يواجه ناخبين منقسمين، وثغرات مالية، وواجب الوفاء بوعود صعبة أطلقت في الحملة الانتخابية.
فبالنسبة لأنصاره الليبراليين، فإن انتخابه يحمل وعد التقدم – على غرار برازيليا في أيامها الأولى. نيماير قال للغارديان إن برازيليا «لم تنجح». ولكن خلال بنائها، قال نيماير، إنه كان لديه أمل في شيء أعظم: «كان يبدو كما لو أن مجتمعاً جديداً يولد وحيث نُحِّيت كل الحواجز التقليدية جانباً». الاتحاد”
*صحفية أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سينديكيت