حلب – د.جمال المجايدة : زرت حلب , في الفترة مابين 16 –21 مارس 2006 , لمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الاسلامية للعام الحالي , ولم اكن اتصور مسبقا هذا الجمال التي يسكن في حلب منذ اكثر من 12 الف عام !
لقد كانت الزيارة – وهي الاولي – فرصة لي لاكتشاف مدينة المدن وعاصمة الجمال والعشق الانساني وعاصمة الحضارة الانسانية و الاسلامية علي مر الزمن ,
حلب فعلا , ام المدن التي غرست الحب والامل منذ عهد ابي الانبياء ابراهيم ولاتزال حتي يومنا هذا وسوف تظل كذلك تأسر قلوب وعقول كل من يراها , لقد فهمت في حلب كيف يكون التسامح والتعايش الحضاري والامن والامان والرخاء الاجتماعي والاعتماد علي الذات ,
فهمت في حلب ان هذه المدينة تأسر القلوب بالجمال , حيث هناك بذور الحب والعشق الروحي , التي بذرها هناك ارسطو والفارابي ونثرها علي ثراها الطيب ابي الفرج الاصفاني والمتبني في عهد سيف الدولة الحمداني , لاتزال المدينة بتاريخها الرحب تصبح وجه التاريخ وتشع بنور الحضارة الي ارجاء المعمورة كلها , والناس في حلب طيبون كلهم متسامحون , من عرب وارمن وكرد ويونانيين واتراك وقبارصة ومسلمين ومسيحيين ويهود وغير متدينين من ابناء عشرات الطوائف الاخري , فهم يعيشون هناك منذ 12 الف سنة في وئام لامثيل له في أي مكان اخر في العالم , وهي المدينة التي قال عنها المتنبي :
اذا رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وانت السبيل
المدينة الاجمل
نعم .. زرت حلب , تلك المدينة الاجمل في سوريا والمشرق كله , فهي المدينة التي جمعت بين الملوك والسلاطين والفلاسفة والشعراء والعلماء والادباء والفنانين منذ القرون الاولي التي سبقت الديانات السماوية ومابعدها , شعرت بالانبهار من العمل المسرحي الكبير ( حلب علي صفحات التاريخ ) الذي اعده محمد قجة واخرجه ماهر صليبي هو الذي اختصر تاريخ حلب المتنوع وقدمه الي الحضور والعالم في صورته البهية مشرقا وضاءا في عمل يستحق الاعجاب والتقدير .
الحفل لخص اذن تاريخ مدينة حلب التي ولدت فيها الحضارة الانسانية منذ 12 الف سنة تقريبا والحياة لاتزال تدب بقوة في اقدم مدينة لاتزال ماهولة في العالم وهناك حيث شاهدنا البيوت البدائية التي تعود الي منتصف الالف الحادي عشر قبل الميلاد حيث هناك في حلب استقر الانسان ليزرع الارض وينتظرالحصاد .
لقد كانت اليونسكو قد سجلت حلب مدينة إسلامية مهمة وهي من التراث الإنساني العالمي الذي يجب الحفاظ عليه .وفضلا عن ذلك فان حلب القديمة هي أكبر مدينة في العالم الإسلامي كما إن العمارة الإسلامية بحلب تتميز بقضيتين هامتين وهما : التعدد الزمني والوظيفي لهذه المباني فنجد جامعاً مثلا من عام 16 للهجرة جانب باب إنطاكية هو جامع الشعيبية ونجد عمائر تعود إلى العصر الأموي وكل ما شهده العصر العباسي من فترات حمدانية مرداسية- زنكية – أيوبية ثم الفترة المملوكية ثم العثمانية .
واجمل مافي الحفل من فقرات اطلالة قلعة الطرب والموسيقي في حلب صباح فخري علي خشبة المسرح , بعد عروض شيقة ورشيقة لرقصات المولوية والتراث الشعبي قدمتها فرقة حلب للتراث وفرقة العزف الشرقي والتخت الحلبي , تلك الاجواء وضعت كل من حضر تدشين حفل حلب في اجواء من التراث الذي تكتنزه حلب واوابدها التاريخية الخالدة .
سبعة الآلاف سنة !
إن استيطان المنطقة التي تقوم عليها مدينة حلب يعود إلى سبعة الآلاف سنة مضت حيث عاصرت حلب مدن نينوى ، بابل ،ممفيس ، ماري ، أوغاريت ، ايبلا ، ادور ، أفاميا ، كركميش ، الرصافة وغيرها وقد زالت تلك المدن وبقيت حلب صامدة . وقال ايضا : لقد كانت حلب عامرة لأكثر من ألف عام عندما أنشئت مدينة روما ، كما كانت حلب عاصمة للأقوى دوله أمورية ( يمحاض ) في القرن 18 ق.م .
لقد اعتبرتها منظمة الأونسكو مدينة تاريخية هامة لاحتوائها على تراث إنساني عظيم يجب حمايته ، خاصة وأن فيها أكثر من 150 أثرا هاما تمثل مختلف الحضارات الإنسانية والعصور السياسية التي مرت بها وفي عام 1978 سجلت مدينة حلب في السجلات الأثرية الرسمية ووضعت الإشارة على صحائفها العقارية ، تثبيتا لعدم هدمها أو تغير معالمها أو مواصفاتها حتى من قبل بلديتها إلا بعد موافقة الجهات الأثرية . من هنا تركز الحديث الذي شارك فيه عدد من المثقفين علي اهمية تفاعل الادباء والكتاب والمؤرخين العرب مع جهود اهل حلب لجعل المدينة متحفا ومسرحا ومتنفسا دائما للقلب والروح ! وكما تقول كتب الثرات عن حلب فقد وصفها الرحالة الأجانب و القناصل المقيمين فيها بأنها أجمل مدن الإمبراطورية العثمانية وأنظفها وأجملها مناخا ، ووصفوا سكانها بأنه أكثر أهل السلطة العثمانية رقيا وتمدنا وهم مضيافون ويخصون ضيوفهم بالمودة الصافية ، وحلب أكبر وأغنى مدينة في الإمبراطورية العثمانية بعد القسطنطينية والقاهرة !
حلب .. متحف التاريخ
يمكنني القول بان مدينة حلب هي متحف التاريخ وحديقة آثاره منذ بدأ الإنسان يترك أثرا على وجه المعمورة ، وهي المدينة الجامعة لعمالقة الشواهد المعمارية الخالدة التي تقترن عظمهتا بعظمة بناتها منذ وجدوا . فقلما وجدت حضارة في العالم القديم إلا وفي حلب آثار لها تدل عليها وتذكر بها فهي متحف كبير حي للحضارات والعمارات والفنون منذ بدأ الفن يتسلق جدران الكهوف إلى أن ارتقى إلى معارج الكمال في كنف الحضارة العربية الإسلامية.
غير ان السؤال الذي كان يلح علي طوال الوقت : الاسم من أين جاء ؟
يقول خبير الاثار السوري عدنان الحموي , الذي رافقني في رحلة لاستكشاف قلعة حلب ان هناك أسطورة تناقلها اهل حلب عبر الأجيال تفيد بأن سيدنا إبراهيم الخليل لدى مكوثه في حلب في طريقه من (أور) التي نزح عنها متوجها إلى بلاد كنعان ( فلسطين )استقر في أحد مرتفعات المدينة وكان لديه بقرة شهباء اللون يحلبها كل صباح ليطعم الأهلين الذين يستبشرون بأنه “حلب الشهباء ” . وبعد ذلك قامت المدينة التي حملت الاسم .
والواقع يفيد بأن حلب ذكرت في رُقم تسبق تاريخ تجوال سيدنا إبراهيم والذي كان حوالي /2000/ ق.م فرقم أور و لكاش وكيش وماري تذكر حلب منذ الألف الثالثة قبل الميلاد .
حلب في اللغة العمورية معادن الحديد والنحاس ، وفي الآرامية البياض نسبة إلى بياض ترتبتها وحجارتها الكلسية . وذكر الأسدي أنها مؤلفة من كلمتين ( حل – لب ) وتعني مكان التجمع .
اما سلوقس نيكاتور ( احد قادة الأسكندر المقدوني ) عام 312 ق.م اطلق عليها اسم بيروا وبالفرنسية بيرية اسم مسقط رأس فيليب والد الإسكندر ، وبقيت تحمل اسم حلب طيلة العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية .
خلاصة القول ان احتفالية حلب عاصمة للثقافة الاسلامية لعام2006 كانت مناسبة للبدء بترميم عدد من المباني الأثرية المهملة سواء كانت /مدارس- جوامع- أبواب- أسوار-او تكايا/ لإعادة الحياة لهذه المواقع وقيل انها تضم أول جامع أقيم في حلب وهو جامع الشعيبية في باب انطاكية الذي بني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب يضاف إليها دار غزالة الذي سيتم توظيفه ليكون متحفا لذاكرة المدينة وترميم البيمارستان الأرغوني ليكون متحفاً لتاريخ الطب عند العرب كذلك اجراء ترميمات في قلعة حلب وحماماتها الملكية وكشف سور المدينة القديمة من باب قنسرين حتى باب انطاكية وانارة وترميم قلعة نجم وترميم الجسور الرومانية والبيمارستان النوري والبهائية/بيت المتنبي/.
لقد فهمت خلال الجولة في حلب القديمة ان من أهم الأسباب التي أدت/لاختيار حلب كعاصمة للثقافة الاسلامية هو ماتتميز به من تنوع وغنى أثري قل أن نجد له مثيلا في العالم كما قرات عن آخر التنقيبات الأثرية للبعثة السورية البولونية المشتركة في موقع/تل القرامل/ في المسلمية اظهرت أن حلب كانت مأهولة منذ الألف العاشر قبل الميلاد .
لماذا سميت بهذا الاسم ؟
حلب مدينة قديمة جدا ,تقوم على ثماني تلال صغيرة, و قيل في تسميتها (حلب الشهباء) إن خليل الله إبراهيم كان يحلب بقرة شهباء على التل الذي أقيمت عليه قلعة حلب عند مروره من بلاد ما بين النهرين إلى كنعان فكان أهل القرية يقولون إن إبراهيم حلب الشهباء.
ويقول الباحث الاثاري السوري عدنان الحموي ان حلب أنشئت في برية قفراء خالية من الأشجار، إلا أنها كانت بلدة تجارية راجت فيها التجارة حتى صار أهلها على درجة كبيرة من الغنى والثروة. وكانت مركز الامبراطورية الرومانية تمتد حتى الفرات. ولما رفرفت أعلام المسلمين في سورية وتمكن الإسلام في فلسطين أمر الخليفة عمر بن الخطاب وهو في بيت المقدس أن يكون يزيد ابن أبي سفيان أميرا على فلسطين والثغور وأبو عبيدة بن الجراح في سورية الشمالية من حوران حتى حلب، وحرضه على فتح المدائن التي لم تكن قد خضعت لهم بعد. فسار أبو عبيدة وأتى قنسرين فخرج إليه أهلها مستسلمين فقبلهم بعد أن تعهدوا أن يدفعوا الجزية، ثم سار إلى حلب وكانت ذات قلعة وأسوار وحصون منيعة لا يعادلها غيرها في الشام وكان القيصر الروماني قد أقام فيها حاكما يتولاها مع ملحقاتها. وفي أثناء ذلك مات الحاكم تاركا ولدين اختلفا بشأن تسليم المدينة أحدهما جنح للسلم والآخر للحرب. ولما شاعت أخبار قرب الفاتحين من حلب الأبطال وسار فتوصل بحيلة إلى القلعة وقتل بعض الحراس وكانوا سكارى وفتح الأبواب فدخلها المسلمون عام 14هـ / 636 م.
و نالت حلب استقرارا نسبيا خلال فترة الأمويين حيث شيد فيها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك المسجد الكبير، ثم وقعت بعد ذلك في منطقة الصراع بين العباسيين من جهة والطولونيين من جهة أخرى فكانت تخضع لهؤلاء تارة ولأولئك تارة أخرى.
وتروي قلعة حلب ومتحفها ومساجدها واسوارها وسواقها هذا التاريخ جملة وتفصيلا , نظرا لوجود كافة الشواهد التاريخية التي تدلل علي عظمة المكان والزمان , لقد امضيت وقتا طويلا وانا اتجول مابين تلك الشواهد للتعرف علي جزء ولو يسير من تاريخ حلب الذي تعلمناه في المدرسة حتي الجامعة دون ان نري شواهده يوما علي الطبيعة , فما بالنا لو توفرت الفرصة لذلك دفعة واحدة وبصدر رحب ؟
الزائر يكتشف ان المدينة القديمة تقع بكاملها داخل السور المحيط بها ، و كانت للسور تسعة أبواب الذي يبدأ من منطقة الكلاسة الحالية حي باب قنسرين ، و فيه باب قنسرين و يؤدي هذا الباب إلى حاضرة قنسرين و قلعتها المشهورة ، و قد تحولت هذه الحاضرة التي تبعد حوالي الخمسة عشر كيلومتر عن ذلك الباب ، إلى قرية تسمى حاليا قرية العيس ، و يعتقد أن عيسو أو عيصو – الشقيق التوأم للنبي يعقوب – مدفون في مزار فيها ، و يلتف السور بالقرب من المغاير الكلسية ، ليصل باب المقام الذي يوجد أمامه ما يعتقد انه مقام إبراهيم ، و يسمى أيضا باب دمشق ، و يستمر باتجاه باب النيرب الذي اختفى تماما . ليلتف بالقرب من القلعة و يصل الباب الأحمر و ليستمر حتى الوصول إلى باب الحديد أو ما كان يسمى باب بنقوسا ، و فيه قبر يعتقد انه للقديس جورج ، و كان يسمى بباب اليهود ليصل إلى باب الفرج ، أو ما كان يسمى باب الفراديس ثم يلتف السور قبل المتحف الحالي ليصل إلى باب العتمة – أو باب جنين – و قد زال هذا الباب تماما ، و يسمى مكانه حاليا سوق العتمة ، ليستمر السور مستقيماً باتجاه الباب التاسع و الأخير ، و هو باب إنطاكية .