باتي ديفيس
خلال المراحل الأولى من إصابة والدي بالزهايمر، حينما كان ما زال يتمتع ببعض لحظات صفاء التفكير، اعتذرتُ له لأنني كتبت كتاب سيرة ذاتية قبل عدة سنوات فتحتُ فيه أبواب حياتنا العائلية المضطربة.
كان والدي قد أصبح قليل الكلام في تلك المرحلة، ولكن عينيه أخبرتاني بأنه فهم. استحضرتُ تلك اللحظة عندما قرأت أن الأمير هاري كتب في كتاب مذكراته الجديد حول تدخل والده الملك تشارلز الثالث لإنهاء شجار ابنيه المتصارعين وقوله «رجاء يا أولاد لا تجعلا أيامي الأخيرة بئيسة».
إن الوقت شيءٌ لا يمكن التنبؤ به. فكيف ستكون آخر ذكرى شخص ما؟ لقد حظيتُ بمنحة الوقت مع والدي، ما سمح لي بالاعتذار، على الرغم من وجود مرض حال بيننا وغطى على التواصل بيننا. وكلمات الملك تشارلز تنمّ عن رجل يدرك أنه سيموت ويرغب في أن يكون أبناؤه واعين بذلك أيضاً. مبرراتي في كتابة كتاب أتمنى اليوم لو أنني لم أكتبه (رجاء لا تشتروه، فقد كتبت كتباً كثيرة غيره) كان مماثلاً لما أتصور أنها الأسباب التي حدت بهاري لكتابة كتابه.
فقد كنتُ أريد قول الحقيقة، كنت أريد وضع الأمور في نصابها. لقد اعتقدتُ بسذاجة أنني إذا كشفت عن مشاعري وحقيقتي الشخصية للعالم ليقرأها، فإن عائلتي قد تفهمني أيضاً بشكل أفضل. والحال أن رد فعل الناس عموماً لا يكون جيداً حين يُحرجون أو يُفضحون. وفي السنوات اللاحقة، تعلمتُ شيئاً حول الحقيقة: إن الأمر أكثر تعقيداً بكثير مما قد يبدو عليه حين تكون شاباً.
فليست هناك حقيقة واحدة: حقيقتنا نحن، ولكن الأشخاص الآخرين الذين يُعدون جزءاً من قصتنا لديها حقائقهم أيضاً. وأنا واثقة من أن الأمير وليام لديه زاويته الخاصة وروايته الخاصة حول العراك الذي تحدّث عنه هاري. ومن أجل فهم الدينامية بين الأخوين حقاًّ وتوسيع القصة وجعلها أكثر اكتمالاً، ينبغي أخذ الحقيقة من وجهة نظر ويليام في عين الاعتبار أيضاً.
لقد كتب هاري أنه بعد أن ضربه ويليام، طلب ويليام من هاري أن يرد عليه الضربة، وهو ما امتنع عن فعله. غير أنه بكتابته عن الشجار الآن، فإنه فعل ذلك بالضبط. هاري عبّر أيضاً عن أمله في أن تتعافى علاقته مع ويليام ومع والده. وربما يحدث ذلك، ولكن سيتعين عليهم قطع شوط طويل عبر ساحة معركة قام بتوسيعها الآن. قبل سنوات، سألني أحدهم ماذا كنتُ سأقول لنفسي حين كنتُ شابة لو سنحت لي الفرصة. وبدون تردد أجبته: «هذا سهل، كنتُ سأقول لنفسي:«اصمتي». ليس للأبد. وإنما إلى أن أستطيع الرجوع إلى الخلف قليلاً والنظر إلى الأشياء من خلال عدسات أوسع. وإلى أن أدرك أن للكلمات عواقب، وأنها تبقى وتدوم طويلاً حقاًّ.
هاري لم يصف ويليام بـ«أخي العزيز» فقط وإنما بـ«عدوه اللدود». لقد اختار كلمات تجرح جروحاً عميقة وتترك ندوباً، وربما لو أنه تأنّى وتروّى للتفكير في قوة الكلمات، لكان قام باختيار مختلف. إن الصمت يمنح المرء مساحة، ويمنحه مسافة، ويسمح له بالنظر إلى تجاربه بشكل أكثر اكتمالاً، بدون إغراء تصفية الحسابات. في وقت ما في السنوات المقبلة، قد ينظر هاري إلى الوراء مثلما فعلتُ ويتمنى لو أنه يستطيع محو ما صدر عنه.
لقد تعلمتُ شيئاً آخر عن الحقيقة: ما كل الحقائق تُكشف للعالم. فالناس سيكونون دائماً فضوليين بشأن العائلات المشهورة، وفي أحيان كثيرة يمكن أن تجد قصصَ تلك العائلات صدى لها عند الآخرين، وتمنحهم فهماً لأوضاعهم الخاصة، بل وتتجاوز الزمن على اعتبار أن الشهرة تكاد تكون أبدية. ولكن ما كل شيء يشارَك، وهذه حقيقة يستطيع الصمت تعليمها.
ولكن يبدو أن هاري عمل بالقول المأثور«إن الصمت ليس خياراً». غير أنني بكل أدب واحترام سأقول له بل هو خيار. ( الاتحاد )
*كاتبة وممثلة أميركية، ابنة الرئيس الأميركي رونالد ريجان. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»