صلاح سليمان
عند مدخل قرية “اوتزي” في إقليم التيرول، تبدو ملامح العصر الحجري واضحة للعيان داخل القرية التي أصبحت عبارة عن متحف مفتوح تم تصميمه تخليدا لمومياء “اوتزي” أو مومياء الثلج كما يطلقون عليها، فقد اكتشفت في أعلى قمم جبال “اوتزتال” الألبية قبل 30 عاما على حافة بحيرة في الخط الفاصل بين الحدود الإيطالية والنمساوية.
وبسبب أهمية هذا الكشف المهم صارهناك جدل محتدم بين إيطاليا النمسا على أحقية تملك المومياء، وانتهى الحال بأن المومياء توجد الآن في متحف “بوزن” في مقاطعة التيرول القسم التابع لإيطاليا.
بيوت وأكواخ وتمثيل كامل لحياة الإنسان التي عاشها “اوتزي” في القرية، وهي فكرة سياحية ذكية لا تتوقف فقط على زيارة متحف المومياء، لكن بجوار ذلك كله يمكن أيضا مشاهدة جوانب من حياة الإنسان في العصر الحجري.
أطلق العلماء على المومياء اسم “اوتزي” تيمنا باسم وادي “اوتزتال” حيث عثر عليها هناك، ولم يكن هذا هو الأمر المثير وحده إنما الأكثر إثارة هو خضوع المومياء لأبحاث وتحليلات عديدة شملت تقريبا كل شيء من أجل كشف جوانب من حياة الإنسان في العصر الحجري، وأزاح ذلك الكثير من غموض تلك الحقبة.
في البداية أراد العلماء معرفة كيف حفظت الطبيعة هذه المومياء مدة خمسة آلاف عام بكل هذه الدقة وبهذا الشكل المثالي، وإذا كانت مومياوات الفراعنة قد حيرت العالم في كيفية التحنيط بهذه الدقة، فإن مومياء “اوتزي” طبيعية لم تتدخل يد البشر في تحنيطها، فالعلماء يقولون: إن سرعة دفنها في طبقات الجليد ربما كان هو العامل الوحيد الذي تسبب في حفظها كل هذه السنوات، لأن درجات الحرارة لا بد وأنها كانت في درجة التجمد يوم موتها، وهذا هو الذي ساعد في الحفاظ عليها بهذا الشكل، فالدماغ والأجزاء الرخوة في الجسم هي أول الأشياء التي تتحلل بعد الموت، لكن وجودها محفوظة بهذا الشكل هو أكبر دليل على أنها تجمدت على الفور.
ويعزز من ذلك الرأي هو العثور حديثا في نفس المنطقة على مومياء ظبي ماعز دفن أيضا قبل 200 سنة في الجليد، وبإجراء التحاليل والمقارنة سيقود ذلك بشكل نهائي للإجابة على السؤال لماذا لم تتحلل المومياء؟!
دراسات العلماء فسرت كل شيء تقريبا يخص حياة مومياء هذا الرجل، أنهم عرفوا ماذا أكل ؟ وكيف عاش؟ وما هي لحظاته الأخيرة؟… إن كل ذلك يرجع بالتأكيد إلى التطور العلمي الهائل، فقد خلص العلماء إلى أن المومياء تعرضت للطعن قبل أيام من وفاتها بسبب وجود جرح في اليد اليمنى.
أما طريقة مقتلها فقد كانت واضحة، وحدثت قبل أن يلتئم الجرح، فقد أطلق أحدهم سهما غادراً أصاب شرياناً في الكتف اليسرى من الخلف، حاولت التخلص من السهم، لكنها لم تنجح في ذلك، وظلت تنزف حتى الموت.
اكتشف العلماء أيضا أنه صاحب المومياء عانى من نزيف في الدماغ، ولا يعرف هل أمعن قاتله في ضربه بحجر على رأسه لتأكيد مقتله أم لا؟
دراسة الميكروبات الموجودة في جسد هذه المومياء، أثبتت أن “اوتزي” عانى الكثير من الأمراض والالتهابات… ثبت كذلك أنه كان لديه استعداد وراثي للإصابة بتصلب الشرايين، ويؤكد فحص بالأشعة المقطعية أن حالته هي أقدم حالة معروفة لأمراض القلب في العالم.
كان “اوتزي” يعاني الكثير من الأمراض، وثبت أن الكثير من أضلاعه تعرضت للكسر، ومن التحليلات كان واضحا أنه تعرض لنوبات متكررة من الإجهاد البدني، إضافة إلى تسوس الأسنان والطفيليات المعوية والتهاب الركبتين والظهر والكتف.
من الأمور المثيرة للاهتمام هي وجود ما يقرب من 61 وشماً على جسده، فندها العلماء على أنها ربما كانت بسبب طقوس دينية كوسيلة للشفاء من أمراض كان يعاني منها.
تشعر وأنت تتجول في الوادي أن كل شيء يذكرك بتاريخ المومياء، وكيف عاشت، وتنقلت، ومهارة الصيد، أن كل ذلك موجود في قرية “اوتزي” ، لقد صمم كل شيء فيها ليحاكي معيشة إنسان العصر الحجري… كيف كان ينام؟ وأدوات المنزل، والملابس، وكل شيء يخص حياته في تلك الفترة، أنها سياحة معرفية تستحق فعلا الزيارة.
أثار هذا الاكتشاف ضجة عالمية وقتها، فكان موضوعاً للعديد من الأبحاث والدراسات والكتب والأفلام الوثائقية التي تناولت حياة ” أوتزي ” والحقبة الزمنية التي عاش فيها.
لقد عاش ا”وتزي” تحديدا قبل حوالي 5200 (3350 – 3110 قبل الميلاد) أي قبل أن يتم تشييد أي مدينة أوروبية، كما أنه أقدم من أول هرم بنِي في مصر، لقد كان نحيفاً وقصيراً وكان يبلغ من العمر 46 عاماً تقريباً عندما قتل. وعلى ما يبدو فقد سافر عبر جبال أوتزال الألبية بحقيبة علي ظهره بها 20 سهما ووجدوا معه خنجرا مصنوعا من الصوان، وفأساً نحاسية لها مقبض ملفوف بجلد البقر، وكان يرتدي حذاء واحداً فقط، ولديه معطفان واحد خفيف والآخر أثقل وزناً مصنوعان من جلود الأغنام والماعز المحلية، بينما كانت قبعته مصنوعة من فراء الدب.
من خلال دراسة الحمض النووي وتتبع الهجرات في علم الانثربولوجي، تاكد للعلماء أن سلالة “اوتزي” هاجرت من الأناضول إلى وسط أوربا، ووفقا للدراسة فإن سلالة الأم قد انقرضت، أما الأب فهي ما زالت موجودة في جزر البحر الابيض المتوسط. اشياء معرفية مثيرة جدا في العالم يجب الاطلاع عليها وزيارتها، بعيدا عن مناخ الحروب، والجوع والقتل، ومخاطر الهجرات عبر المحيطات والبحار وكل الأخبار المحبطة الأخرى.





