صلاح سليمان
ستتوقف عبارة هنا لندن باللغة العربية إلى الأبد، تلك العبارة التي ظلت تتردد عبر أثير محطة بي بي سي طيلة 84 عاما أثرت فيها في وجدان المثقفين والمستمعين العرب على حد سواء، ومن ثم لعبت دورا كبيرا في النهضة الإعلامية الناطقة بالعربية بغض النظرعن أسباب نشأتها، وعن الغرض الذي وجهت لأجله!!.
الفقر الإعلامي العربي يساعد في نجاح البي بي سي
التف المستمعون العرب عبر أجيال متواصلة في الاستماع إلى راديو لندن، ليس هذا بسبب الفقر الإعلامي العربي في المنطقة، لكنه بسبب عدم الاستقرار السياسي، وسياسة حكم الفرد الواحد التي فضلت أخبارالحاكم علي أخبار العالم، في حين أن المستمعين العرب كانوا في أشد الحاجة إلى معرفة شؤون العالم من خلال نافذة اعلامية وهذا ما نجحت فيه إذاعة لندن.
لقد أحدثت نهضة في الثقافة السياسية لدى المستمعين، اتبعتها بنهضة ثقافية شاملة، اهتمت فيها بالبرامج الثقافية المميزة شديدة المهنية، قدمها مذيعون أدباء منهم الطيب الصالح الأديب السوداني الكبير، وحسن الكرمي صاحب برنامج قول علي قول الذي استمر 45 عاما.
إن قرار الإغلاق الحكومي هو قرار سيئ،فإذا كان يهدف لتوفير 28 مليون جنيه إسترليني، فإنه سيخسر قيمة كبيرة للبي بي سي في المنطقة، والأثر الذي ستتركه على الأشخاص الموهوبين والمتفانين الذين يعملون بجد لتقديم خدمات إخبارية مهمة للمملكة المتحدة وخارجها… قد تحتاج الدولة إلى صرف مبالغ أكثر بكثير من أجل تثقيف وتصويب المفاهيم في وقت يشهد فيه العالم تغيرات جذرية، وهجرات جماعية من الشرق الأوسط صوب أوربا قد تغير المشهد كله.
مذيعين ذات أصوات مميزة
الإذاعة غير تليفزيون البي بي سي بشكله الحالي، فالإذاعة رسمت طريقا فريدا بصوت مذيعيها وثقافتهم العالية لا يمكن أن تخطئه الأذن ولا العين… أمثال أيوب صديق من السودان، وسامية الأطرش من العراق، وماجد سرحان من فلسطين، ومحمد الأزرق المغرب، ومديحة المدفعي، سامي حداد، جميل عازر وافتيم قريطم ”الذي قدم البرامج الرياضية في“ بي بي سي عربي طوال 45 عاماً إلى جانب الكثير من البرامج السياسية والنشرات الإخبارية، وكلهم كان المستمع العربي يحبس أنفاسه وهو يستمع إليهم أثناء قراءة نشرة الأخبار لبراعة القراءة وجمال الصوت. في حين أن التليفزيون جاء ماسخا تفوقت عليه الكثير من الفضائيات العربية الأخرى ذات الإمكانيات الكبيرة.
الأجيال الجديدة قد لا تعرف قيمة الراديو، ومدى تأثيره آنذاك على الأجيال التي نشأت في عصره، أي قبل دخول العالم الآن عصر “الديجتال” وانتشار القنوات الفضائية والإنترنت. لقد ساعد بث الأثير الناس كثيرا في زيادة وعيهم الثقافي، خاصة بعد أن تعددت محطاته وأصبح الراديو رخيصاً وسهلاً يمكن حمله أو وضعه في الجيب.
قمة ازدهار الراديو بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي عندما تعددت الإذاعات، وأصبح الاستماع إلى موجات البث القصيرة سهلا ويسيرا، فزاد اهتمام الناس بالمحطات العالمية الموجهة باللغة العربية، وتخلصوا من روتين نشرات أخبار الإذاعات العربية، وانتقلوا للاستماع إلى نشرات الراديو العالمية الناطقة بالعربية.
بلا شك لعبت الإذاعات العالمية الأخرى دوراً مهما في الوصول إلى آذان المستمعين عبر موجات البث القصيرة، كما أن البرامج الموجهة للمنطقة العربية لعبت هي الأخرى دورا في تعريف المستمعين بدول لم نكن نعرف عنها شيئا من قبل، رغم أن أغلب ساعة البث لم تكن تزيد عن النصف ساعة.
هنا لندن تتفوق علي قوة بث الإذاعة الروسية
في زمن الاتحاد السوفيتي كانت الإذاعات الروسية التي تبث باللغة العربية قوية ومسموعة بشكل جيد في المنطقة العربية، فالصراع أثناء الحرب الباردة ة بين موسكو وواشنطن كان على أشده، والدول التي تدور في فلك كل منهما كانت تعمل جاهدة على استمالة المستمعين العرب إليها. أما سياسة التحرير فكانت متباينة جدا بينهما، فبينما كانت الإذاعات الغربية تتحرى دقة الخبر وأهميته، كانت مجموعة إذاعات الدول الاشتراكية في ذلك الوقت تتبنى منهج “البروبجندا” والتركيز على الدعاية لهذا ظلت إذاعة لندن الرقم الصعب في كل هذه الإذاعات وظلت دون منافس.
صوت العرب تتفوق تقافيا وتتراجع سياسيا
في مصر ذاع صيت محطة صوت العرب في العالم العربي كله وكانت من أكثر المحطات استماعا، ثم عرف المصريون والعرب من خلال راديو القاهرة أساطين الفن والموسيقي وأعزب أصوات تلاوة الذكر الحكيم في ذلك الوقت، وهناك قائمة طويلة من البرامج التي لا يمكن للمرء من جيلنا أن يسقطها من ذاكرته مثل برنامج أوائل الطلبة، والغلط فين لعلي فائق زغلول، ومن مكتبة فلأن لنادية صالح، ومجلة الهواء لفهمي عمر، ولغتنا الجميلة لفاروق شوشه، وشريط كاست لحمدي الكنيسي، وعلي الناصية أمال فهمي، وأغرب القضايا وعشرات البرامج الأخرى. لكنها سياسيا وثقافيا لم تصل إلى راديو لندن والأثر الذي تركه بسبب العمل بحرية ودون رقيب. لا يمكن لنا الآن أن نتجاهل وجود الراديو، فهو موجود منذ بدء أول بث إذاعي في أوائل العشرينيات من القرن الماضي وحتى عصرنا الحالي عصر المعلوماتية والتكنولوجيا الرقمية، الموبايلات الحديثة كلها تحتوي على تطبيق الراديو فأكثر من 70 % من سكان العالم يستطيعون الاستماع إليه عبر هواتفهم النقالة كذلك في كل السيارات.