صلاح سليمان
لم تتمكن مصر يوما من حصر آثارها المنتشرة عبر ربوع العالم، متاحف عدة تحمل البصمة الفرعونية في كل دول العالم، تعرض مجموعات فريدة ومتميزة من الفن المصري القديم، ناهيك عن أقسام المصريات في أكبر متاحف العالم في نيويورك، باريس، لندن، وبرلين.
سمحت الفرصة أكثر من مرة لرؤية هذا الفن من المتاحف في أوربا، لكن دائما كان الفضول يستبد بي مع تلك المتاحف الصغيرة التي تعرض آثار مصرية، بالنظر إلى دقة اختيارها، وقصة وصولها إلى هذه المتاحف.. ومن ثم أسلوب وطريقة عرضها.
أحد تلك المتاحف التي لفتت نظري هو متحف الآثار المصرية في مدينة “بوزنان” البولندية، كانت الصدفة وحدها وراء معرفتي بهذا المتحف الذي يحتوي مئات القطع الأثرية الفرعونية، فقد كنا في قلب المدينة القديمة عندما أشار لي مدير السياحة السيد” Wojciech Mania” إلى مسلة متوسطة الطول تنتصب أمام البهو الرئيسي لمدخل المتحف ، وقال لي إنه متحف يحتوي على الكثير من القطع الآثرية المصرية القديمة .
أزمة الكورونا تغلق المتحف
كان المتحف موصدا بسبب أزمة الكرونا وعرفت أن جناح المصريات في المتحف تأسس سنة 1998 نتيجة اتفاقية للتعاون الثقافي بين هذا المتحف وكلا من متحف برلين وميونيخ للآثار المصرية،، فقد اتفق مدير المتحف البولندي البروفوسير “ليش كرزينيك” ومدير المتحف المصري في برلين “ديتريش فيادونج ” ومديرة المتحف المصري في ميونيخ “سيلفيا شوسكى” علي تبرع برلين وميونيخ بمئات القطع الأثرية للعرض في متحف “بوزنان”، أما المسلة فقد وصلت من برلين إلي هذا المكان في عام 2003.
عجيبة هي قصص الآثار المصرية التي تتجول في العالم دون أن يكون صاحبها الأصلي موجودا، وربما تعكس رحلة هذه المسلة الحائرة في حركة خروجها طريقة خروج الآثار من مصر وتنقلها بين الدول دون أن تعود إلى موطنها الأصلي، فالمسلة خرجت من القاهرة إلى برلين ثم بولندا وستعود مرة أخرى إلى برلين بعد انتهاء فترة الإعارة دون أن تعود إلى موطنها الأصلي مصر، ولنا في تمثال نفرتيتي في متحف برلين المثل الحي في صعوبة عودة الآثار المصرية إلى مصر.
متحف ميونيخ يتألق
في ميونيخ التي تابعت تطور متحفها للمصريات منذ أن كان صغيرا، عبارة عن عدة حجرات في مبنى البلدية إلى أن صار مبني جديد أنيق حديث مستقل علي شكل مقبرة فرعونية تبلغ مساحتها 4000 آلاف متر مربع، بتكلفة وصلت إلى 99 مليون يورو، لم يكن غريبا إذن أن يتبرع هذا المتحف بعدة جداريات وتماثيل لتكملة متحف “بوزنان”، أتذكر أيضا واقعة شهيرة في هذا المتحف الذي ظل يحتفظ بتابوت الملك أخناتون دون غطاء، حتى طالبت مصر باسترداده لاستكمال التابوت الذي كان نصفه الآخر معروضا في متحف القاهرة، ونجح الاتفاق وعاد التابوت إلى موطنه الأصلي مصر!
أما أهمية متحف ميونيخ علي عكس متحف بوزنان الذي يهتم فقط بتسليط الضوء علي الحياة والموت في مصر القديمة فإنه ينفرد بعرض نماذج من فنون النحت المصري القديم في مراحله المختلفة، بدء بالحضارة النوبية أي حضارة ما قبل التاريخ ، ومرورا بالحضارة الفرعونية ، من خلال الممالك القديمة والمتوسطة والحديثة وحتى الوصول إلى الحضارة الرومانية، وهذا العرض السريع والمختلف يتيح للزائر أن يرى نماذج من هذه الحضارات المختلفة في وقت قصير، قد يصعب عليه الإلمام بها في حال زيارته للمتاحف الكبيرة التي تحتاج لوقت أطول، من هنا جاءت أهمية متحف ميونيخ للزيارة.
النيل ملهم الحياة في مصر القديمة
أما أهم القطع المعروضة في متحف بوزنان فهي تماثيل لرؤوس ملوك من مصر القديمة، ومجسم طبق الأصل لإحدى جداريات مقبرة توت عنخ آمون، كانت معروضة في متحف ميونيخ، نفذها الفنان التشكيلي المصري المقيم في ميونيخ عبد الغفار شديد، وهي تصور ولادة الملك من جديد بعد رحلة الموت الذي يتحكم فيه الإله أوزوريس. فالمصريون القدماء كانوا يؤمنون بعودة الحياة إلى الجسد لهذا وضعوا معتقدات ونظما شديدة التعقيد لعودة الحياة بعد الموت، أثرت بشكل كبيرعلي كل مناحي الحياة في طريقة عيشهم، فقد كان الاهتمام بالآخرة والطقوس الجنائزية ، وتأثيث القبر بكل ما كان يستخدمه المتوفي من أشياء في حياته أمرا مهما لا سيما التحنيط ، فالجسد كان وفق معتقداتهم بمثابة الوعاء المادي الذي ستعود إليه الروح من جديد!
مقتنيات المتحف اختيرت بعناية فائقة، لأنها تركزعلى الحياة والموت، فكما صورت الموت اهتمت بالحياة بعرض رسوم جداريات ونقوش مستلهمة من الحياة النباتية والحيوانية الوفيرة في وادي النيل، والتي كان يجسدها الفيضان. من أبرز المعروضات أيضا هو تمثال الإله سخمت إله الحرب والأمومة المنحوت على شكل امرأة برأس لبؤة متوجة بقرص شمس جالسة على العرش، فقد كانت سخمت أيضا هي الأم الكونية للفرعون ، والقادرة علي هزيمة أعداء الشمس رع.
من المهم السفر إلى مصر
قد يطرح سؤل نفسه هنا ـ وهل انتشار كل هذه المتاحف في الخارج يعود بالنفع علي الدولة المصرية أم الدولة المضيفة؟ قد تختلف الآراء وتتباين وجهات النظر، لكن مدير معهد الآثار الألماني في القاهرة ” جونتر ريدر” له رأي آخرـ فهو يري أن مصر كانت أول دولة في التاريخ، لهذا السبب مهم أن يعرف العالم تاريخ تلك الدولة ..وحتى نفهم ذلك ومن ثم نفهم أنفسنا .. من المهم أن نسافر إلى مصر، وأن نهتم بتاريخ المصريين القدماء حتى نفهم كيف صنعوا كل ذلك المجد.