د.جمال المجايدة :
في قلب قطاع غزة، وتحت ركام الحروب والصراعات المتكررة، تتلاشى معالم حضارة عمرها أكثر من خمسة آلاف عام. هذه الأرض، التي كانت مهدًا للعديد من الحضارات و الثقافات القديمة كالفلسطينيين الكنعانيين والفينيقيين، تحولت اليوم إلى مسرح مفتوح للتدمير، ليس فقط للبشر والعمران، بل أيضًا لذاكرة تاريخية عميقة الجذور.
لطالما كان قطاع غزة معبرًا حضاريًا مهمًا يربط بين مصر القديمة وبلاد الشام. وقد كشفت بعثات أثرية محلية ودولية على مدى عقود عن آثار تعود لعصور البرونز والحديد، وفترات الإغريق والرومان والبيزنطيين والإسلام المبكر. ومن أبرز الاكتشافات الأخيرة موقع “تل السكن”، الذي اعتبره علماء الآثار دليلاً حيويًا على وجود مراكز حضرية منظمة في غزة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.
لكن هذه المواقع الأثرية، بدلًا من أن تُصان وتُعرض، تُدفن تحت الردم أو تُقصف بالصواريخ. ويُطرح السؤال المؤلم: من يتحمل مسؤولية تدمير هذه الذاكرة الجماعية؟ إسرائيل؟ أم حماس؟ أم كليهما؟
إسرائيل: تدمير منهجي باسم الأمن
تتهم منظمات حقوقية ودولية إسرائيل بانتهاك اتفاقيات جنيف واتفاقية لاهاي بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. ففي العديد من العمليات العسكرية، استخدمت إسرائيل قصفًا مكثفًا طال مواقع أثرية، بعضها معروف ومسجل لدى منظمة اليونسكو أو السلطة الفلسطينية. في بعض الحالات، لم تُؤخذ بعين الاعتبار قيمة هذه المواقع، بل كانت مجرد “أضرار جانبية” في مسرح العمليات العسكرية.
علاوة على ذلك، فرضت إسرائيل حصارًا طويل الأمد على غزة، أعاق بشدة أي جهود للتنقيب أو الترميم أو التعاون الدولي في مجال الآثار، مما ترك هذه الكنوز رهينة الإهمال.
حماس: أولوية للبقاء لا للتراث
من جهة أخرى، تواجه حركة حماس انتقادات متزايدة من علماء آثار محليين ودوليين، بسبب غياب السياسات الجادة لحماية المواقع التاريخية. في أوقات السلم، سمحت السلطات في غزة ببناء مشاريع عمرانية على مواقع أثرية حساسة، بل وتدمير بعضها لأغراض اقتصادية أو عسكرية.
كما استُخدمت بعض المواقع الأثرية كمواقع عسكرية أو للتخزين، مما جعلها أهدافًا مشروعة للهجمات الإسرائيلية، وفق قوانين الحرب. وبهذا، تتحمل حماس أيضًا جزءًا من المسؤولية، ولو كان بدافع الضرورة الأمنية، عن تحويل التراث إلى ضحية جانبية في معركة البقاء.
ما بعد الدمار: هل يمكن إنقاذ ما تبقى؟
اليوم، يواجه الإرث الثقافي في غزة خطر الاندثار التام. يحتاج الأمر إلى تدخل دولي عاجل، تقوده منظمة اليونسكو وهيئات التراث الثقافي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتوثيق ما تبقى، وتوفير الحماية القانونية والسياسية للمواقع التاريخية، حتى وسط النزاع.
إن ما يحدث في غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل هو أيضًا كارثة ثقافية وإنسانية بكل المقاييس. حضارة تمتد آلاف السنين تُمحى أمام أعين العالم، وسط صمت دولي وتواطؤ ضمني مع منطق الحرب.
هل ننتظر حتى تُمحى آخر قطعة فخار كنعاني، أو تُطمس آخر فسيفساء بيزنطية، لندرك أن حضارة كاملة ضاعت؟ أم نحاول اليوم، رغم الحطام، أن نحمي البقية الباقية من ذاكرة الأرض؟