د. علي القحيص
في أحد الملتقيات الاجتماعية مع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، كان هناك جمع من المواطنين السعوديين، وكان أمامه رجل يطلي الشيب لحيته وعليه وقار السنين. وأشار الملك عبدالله إلى الرجل وسأل الحضور: هل تعرفون هذا من؟ هذا أستاذي ومُعلمي في المرحلة الابتدائية، وأشار إلى معلمه وقال هل تتذكر حين تضربني ضربنا مبرحاً لحفظ الدرس؟
فرد عليه الأستاذ، يا خادم الحرمين ويا ملك عبدالله (ضرب الحبيب زبيب) ! فرد عليه الملك صدقت (ضرب المعلم يعلم)!
وهذا السياق معروف عن السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان الراحل رحمه الله، كان لديه بروتوكول خاص به لا يشبه الملوك أو الرؤساء، وهو أنه لم يذهب إلى المطار أبداً لاستقبال شخصيات من أي بلد كان، ولم يكسر هذا التقليد إلاّ مرة واحدة، عندما استقبل رئيس الهند في نهاية الثمانينات (شانكار ديال شارما)، وتعجب الأفراد المسؤولون عن حماية السلطان وكذلك رجال حكومته ورجال الإعلام أيضاً عندما شاهدوا السلطان يصعد سلم الطائرة ويعانق الرئيس قبل أن ينزل من السلم، ونزل معه متشابكي الأيدي، وما إن وصلا إلى السيارة، حتى أشار السلطان للسائق أن يبتعد عنه، وفتح الباب الأمامي بنفسه للرئيس حتى جلس بمقعده، وحل هو مكان السائق وأخذ يقود السيارة بنفسه حتى وصل به إلى القصر السلطاني واستغرب الجميع، وبعدها سأله الصحافيون عن سبب ذلك وأجاب قائلاً: «لم أذهب إلى المطار لاستقبال السيد (شارما) لأنه كان رئيساً للهند وزائراً لنا، ولكنني ذهبت له للطائرة لأنني درست في بونا بالهند، وكان السيد شارما هو أستاذي ومعلمي الذي تعلمت منه كيف أدرس وأتعلم وأعيش وكيف أتصرف وكيف أواجه المصاعب والشدائد والمحن، وحاولت أن أطبق نصائحه ما تعلمته منه عندما قدر لي أن أكون سلطاناً».
ويذكرنا هذا التصرف بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عندما شاهد معلمته العجوز بين حشد من الناس، فما كان منه إلاّ أن خرق البروتوكول الرسمي رغم الحراسة المشددة وسط دهشة مرافقيه والجمهور، وذهب إلى معلمته وعانقها وعانقته وهي تبكي وهو كذلك، وأخذها وهي تمشي بجانبه وسط إعجاب الجماهير المكتظة وكأنها ملكة أو رئيسة دولة مهمة.
وهنا نتذمر جميعاً حين جاء أن مُعلم المأمون ضربه بالعصا دون سبب يذكر، فسأله المأمون عندما كان صغيراً: لِمَ ضربتني؟ فقال له المعلم: اسكت. وكلما أعاد عليه السؤال، كان يقول له: اسكت، واصمت… وبعد عشرين سنة تولى المأمون الخلافة، وعندها خطر على باله تلك الإهانة والقصة، استدعى المعلم نفسه، فلما حضر سأله: «لماذا ضربتني ضرباً مبرحاً عندما كنت صبياً من دون سبب!» فسأله المعلم: «ألم تنس؟» فقال: «والله لم أنس تلك الإهانة»، فرد عليه المعلم وهو يبتسم: «حتى تعلم أن المظلوم لا ينسى» وعاد ينصحه قائلاً: «لا تظلم أحداً فالظلم نار لا ينطفئ في قلب صاحبه، ولو مرّت عليه الأعوام والأزمان».
هكذا هي الحكمة العادلة والموعظة المفيدة والدروس المستفيضة التي يتعلمها الكبار ليكونوا حكماء !
ولكن اليوم للأسف، في بعض المجتمعات تراجعت هيبة المعلم، ولو نهر طالباً رد عليه بالمثل، ولو ضرب طالباً من طلابه، لقامت الدنيا ولم تقعد على المعلم، حتى لو كان الطالب مخطئاً وسيئ التربية والسلوك.
*كاتب سعودي