د. يوسف الحسن
تميزت الأندلس، في العصر الإسلامي، بالتنوع الثقافي وتعايشت فيها أعراق وأقوام وديانات ولغات وثقافات متنوعة، فكان هناك الإسبان الأصليون، ومن جذور قوطية ورومانية ومغربية، ويعتنق أغلبيتهم النصرانية، ولهم تراثهم اللغوي والحضاري. وقد آثروا استمرار العيش في ديارهم الأندلسية، ولم يجبرهم أحد على هجرة قراهم ومدنهم، أو الانتقال طوعاً إلى الممالك النصرانية في شمال إسبانيا، وكفلت لهم الأندلس بنظامها العربي الإسلامي حرية العقيدة، وممارسة طقوسهم الدينية والتي كانت تُقام باللغة اللاتينية في الكنائس والأديرة، ووفق التقاليد الكنسية المعتادة، ويحكمهم قضاؤهم الإكليركي، وبقي كرسي المطرانية الكبرى في مكانه الأصلي في طليطلة بعد أن قطع علاقته مع كنيسة روما، واستمرت الكنائس في تأدية وظائفها الاجتماعية بحرية كاملة.
ومع مرور الوقت، استعربت هذه الأقوام، في لغتها وعاداتها، وتفاعلت مع الوافدين الجدد بالجوار والمصاهرة والعيش المشترك، وفي إطار من التسامح والاحترام المتبادل.
تشكّل المجتمع الأندلسي الجديد من أجناس متعددة: عناصر عربية مسلمة، وصقالبة أوروبيين ونورمانديين ينتمون إلى شمال أوروبا اعتنقوا الإسلام، وانخرطوا في الحياة السياسية والثقافية والعسكرية للأندلس.
ولم تكن أوروبا، في تلك الأزمنة، سواء في زمن الرومان أو القوطيين الذين اجتاحوا جنوب أوروبا، تعرف أو تقبل هذه الظاهرة التعددية والتنوع الثقافي.
ويقول المؤرخ الفرنسي إرنست رينان (1823-1892): «لم يحدث في التاريخ أن فاتحاً (غازياً) فعل ما فعله العرب في إسبانيا من تسامح واعتدال مع المغلوبين وصارت اللغة العربية منذ القرن العاشر الميلادي هي لغة مشتركة للمسلمين والمسيحيين واليهود، وكانت الثقافة الأدبية لليهود في العصر الوسيط قبساً من الثقافة الإسلامية الأندلسية».
ومع استقرار الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، وبخاصة في المدن، صارت اللغة العربية عنصر توحيد لذلك المجتمع، وعبر الكثير من الألفاظ والمصطلحات العربية إلى أوروبا عبر الأندلس بفعل وسائل التواصل العلمي والأدبي والفلسفي التي أنتجتها الأندلس وانتشرت في جنوب أوروبا كلها، وشكلت مصدر إشعاع حضاري ولغوي وفكري.
تمثل التجربة الأندلسية في التسامح والتعايش، والتي دامت أكثر من سبعة قرون، نموذجاً حافزاً متجدداً، يسلط الأضواء، ويفتح الأبواب أمام معالجات لمعضلات الحاضر التي تواجهها مجتمعات عربية وغير عربية، من تعصب، وكراهية، وإقصاء واستكبار.
تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (1913-1999) صاحبة كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب» الذي صدر قبل أكثر من ستة عقود: «ولعل من أهم عوامل انتصار العرب هو ما فوجئت به الشعوب الأخرى من سماحتهم، إن هؤلاء المنتصرين لا يأتون كمخربين، والتاريخ لا يقدم لنا في صفحاته الطوال إلا عدداً ضئيلاً من الشعوب التي عاملت خصومها والمخالفين لها في العقيدة بمثل ما فعل العرب، وكان لمسلكهم هذا أطيب الأثر، مما أتاح للحضارة العربية أن تتغلغل بين تلك الأمم بنجاح لم تحظ به الحضارة الإغريقية ببريقها الزائف ولا الحضارة الرومانية بعنفها في فرض إرادتها بالقوة».
جذبت الأندلس، في أوج ازدهارها، كما تقول المستشرقة زيغريد هونكه عشرات الآلاف من اليهود والنصارى إليها، «وتدفق إليها الطلبة من كل أنحاء الدنيا، وعلى قرطبة بالذات، ليتعلموا فيها، وبخاصة بين القرنين الثامن والحادي عشر».
وتقول أيضاً: «لم يقض عرب الأندلس على النصرانية، ولا على «المدنية الغربية» التي لم يكن لها وجود، لقد حولوا الأندلس من بلد جدب فقير مستعبد إلى بلد عظيم مثقف ومهذب يُقدسِّ العلم والفن والجمال والأدب، وقدم لأوروبا سبل الحضارة، وقادها في طريق النور».
……
تجربة الأندلس في التعايش ذات معنى كبير في تاريخ العالم بالتزامن مع إنجازات غير مسبوقة في العلوم والآداب والفلسفة والترجمة والرفاه الإنساني.