د. يوسف الحسن
العنوان أعلاه هو لكتاب يلخص تجربة ثرية ومثيرة، لطبيب عربي مميز، قرر خوض معترك طب الحروب والكوارث الطبيعية، وتسجيل تجربته التي اختلطت فيها المهنية الطبية كجرَّاح عظام، والمواقف السياسية، وممارسة التطوع في العمل الإنساني، إغاثة ومساعدة للأفراد الذين يواجهون مخاطر الحروب والكوارث.
التجربة سجلها الصديق الذي به أعتز، الدكتور زياد الزعبي، كرواية واقعية، وكمسيرة أو سيرة في آن، تحمل جوهر معاني النخوة، ومتعة قيم التطوع بلا مِنّة ولا رياء، وقدمها إلى الأجيال الشابة، لعلها تشكل حافزاً وإلهاماً لهم، للسير في هذا الطريق الوطني والإنساني.
قدم في الكتاب ثروة هائلة من المعرفة الطبية والإغاثية، واستحضر مغامرات وأحداثاً سياسية، وحروباً وكوارث، ومشاعر إنسانية ولحظات ذعر وقلق، وأخرى مليئة بالثقة بالنفس، وبالجرأة في السرد ودقته، والشهادة على تاريخ من التغيرات والمفاجآت، منذ أن كان المؤلف طالباً على وشك التخرج في كلية طب قصر العيني، بجامعة القاهرة، في أكتوبر 1973، وحتى لحظة انتخابه نقيباً لأطباء الأردن، حين استعد للتطوع لعلاج مصابي زلزال سوريا في عام 2023.
بدأت سرديته لهذه المسيرة الطبية والإنسانية في الأيام الأولى لبدء حرب السادس من أكتوبر 1973، حينما تقدم صاحبنا للتطوع في قسم الحروق في مستشفى الجامعة، الذي كان يستقبل جنوداً مصريين مصابين في حرب «استرداد الكرامة لمصر وللعرب». ويقول: «كان حلماً لي كطالب على وشك التخرج أن يعيش هذه التجربة، ويشارك مع أساتذة وأطباء كبار، ويستمع لقصص الجنود الشجعان» وهو يمارس عمليات تنظيف الجروح، والتحضير للعمليات الجراحية.
الخطوة العملية الأولى في مسيرته المهنية، بدأت بعد التحاقه بالعمل في المستشفى المركزي في أبوظبي في عام 1974، وترقيته إلى اختصاصي في جراحة العظام، ويسرد رحلته التطوعية الأولى ضمن فريق طبي إماراتي، خرج لمساعدة متضرري الزلزال الكبير الذي ضرب مدينة «الأصنام» في الجزائر، شارحاً قصة نضال الجزائريين للتحرر من الاستعمار الفرنسي، وحكايات المدينة العاصمة وأحيائها.
وتتوالى رحلاته التطوعية في أعوام 1978، و1979، و1982، والتي شهدت حروباً إسرائيلية على لبنان، وتُوّجت باحتلال بيروت، ويقول: «الشيوخ أمروا بإرسال بعثات طبية» متكاملة الاختصاصات. ومعونات طبية وأجهزة، لعلاج المصابين في مستشفيات خلف خطوط القتال، ويعبر عن شعوره الوطني ويقول: «القضية هي قضيتنا أيضاً، هؤلاء يدافعون عن كرامة الأمة بأسرها، وقد لا يجدون جرَّاحاً يُضمّد جراحهم»، وعمل في «مستشفى بر إلياس»، وعالج مصابين لبنانيين وجنوداً سوريين وفلسطينيين. ويذكر في سرديته أنه كانت تدور حوله، أثناء عمله، حرب شوارع، ويعززها قصف طائرات، ومدافع دبابات، ويؤرخ في رحلته التطوعية لشخصيات وأحداث سياسية في تلك المرحلة، ولمشاعر وحياة الناس، ولقاءات وحوارات له مع قادة عسكريين وسياسيين. وقيل له، إثر نقاش حامي الوطيس مع قياديين من حركة «فتح» الفلسطينية، إن «بعضهم» قرر تصفيتك، وحينما تعذر الاتصال الهاتفي مع البعثة الطبية الإماراتية التي شارك فيها، سرت إشاعة بأنه استشهد أو أُسر، وخاصة حينما جرى قصف مدفعي لمحيط المستشفى، الذي يعمل فيه.
وفي عام 1988، وكان وقتها قد أصبح رئيساً لقسم الطوارئ ومسؤولاً عن خطط مواجهة الكوارث في المستشفى المركزي في أبوظبي، وقاد بعثة طبية، بناء على (أمر من المغفور له الشيخ زايد) بتقديم مساعدات عاجلة طبية وإنسانية إلى المصابين في كارثة زلزال أرمينيا، ورافق هذه البعثة، وكيل وزارة الصحة الدكتور عبدالرحيم جعفر، وحسن علكيم، مدير مستشفيي الجزيرة، وأبوظبي المركزي، وحملت طائرة «بوينج 747» أطناناً من اللوازم الطبية.
وفي حرب الخليج الثانية، إثر اجتياح العراق للكويت، وكذلك في حرب البوسنة والهرسك، كانت له أدوار تطوعية وطبية مؤثرة، وفي كل سردياته كان يحرص على تقديم رؤيته للأحوال السياسية والاجتماعية السائدة، ويجري حوارات ولقاءات مع مؤثرين في السياسة والرعاية الصحية، والمجتمع المدني.
وقد التقى زعماء وقادة، من بينهم الزعيم الليبي معمر القذافي في عام 1998 حينما استدعته الحكومة الليبية لإجراء عملية جراحية في عظم الفخذ للقذافي، واحتجز مع زملائه من الأطباء والممرضين نحو عشرة أيام، لتلبية دعوة عشاء مع القذافي، وألقى صاحبنا خطاباً في ليلة العشاء، انتقد فيه توجهات القذافي في إفريقيا و(طلاقه) مع العرب.
كما انتقد أمام القذافي سوء أحوال المؤسسات الصحية والبنية التحتية والتعليمية في ليبيا، مما أثار استياء القذافي وطاقمه الرسمي المشارك في العشاء، خاصة حينما نوَّه بنجاح تجربة الإمارات الاتحادية، وبناء دولة حديثة، دخلها من النفط يوازي دخل ليبيا، وسكانها يماثلون عدد سكانها ليبيا الجماهيرية، وقال صاحبنا: «الإمارات الآن دولة متقدمة، بمدارسها وجامعاتها، وحوَّلت الصحراء القاحلة إلى بساتين خضراء، ومدن نظيفة» (صفحة 279).
وفي العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان عام 2006، تقدم صاحبنا بطلب للتطوع، لكن قيل له إن معظم الجرحى من المناطق التي يسيطر عليها «حزب الله»، وإمكانياتهم كافية لعلاج المصابين. وقال في سرديته وقتها: ترحمت على الشيخ زايد، الذي كان نموذجاً للعمل الإنساني، دون اعتبار للعرق أو الطائفة» (صفحة 294).
……….
صديقي الحكيم الطيب، يمارس شغف الإبداع الأدبي دون توقف، ويعيدنا دوماً إلى البراءة الأولى للدور الإنساني للطبيب، وإلى نُبل الانتماء إلى قضايا الإنسان. خرج عن السائد ورموزه إلى الراوي والشاهد، وتلمس روح التاريخ والسياسة والحس الإنساني، وكم سعدت، وأنا أقرأ إهداءه الكتاب إلى ذكرى المغفور له الشيخ زايد، ويقول فيه: «الإنسان العروبي النقي الذي حظيت برعايته طوال عشرين عاماً قضيتها في أبوظبي وما رأيته يوماً متوانياً عن فزعة عروبية نقية أو نخوة إنسانية لا تشوبها مصلحة ولا منفعة، اللهم إلا أداء الواجب نحو إخوة له في الدم والإنسانية».