د. يوسف الحسن
هو يوم للوفاء والولاء للمبادئ والقيم النبيلة التي أرسى دعائمها وبثها في حياتنا اليومية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حتى صارت شاهداً على تفرد الإمارات ومجتمعها في مجالات الخير العام والعمل الإنساني.
ارتبط هذا اليوم باسم القائد والمؤسس، رحمه الله، الذي حمل على كتفيه مشروعاً وطنياً وإنسانياً، مفعماً بمعاني الخير العام، والحكمة الإنسانية في العمران والحوار والتعاضد وبمرجعية أخلاقية تقدم العون الإنساني والتنموي من غير منّة أو ادعاء أو تمييز، وتُقدِّم الإمارات إلى العالم بشكل مؤثر ومُقنع ومفيد، نموذجاً للعطاء والإغاثة، ودعم التقدم الحضاري والعلمي والإنساني.
أستحضر في هذه المناسبة موضوعاً مهماً، ونادراً ما نتطرق إليه حينما نتحدث عن العمل الإنساني في سيرة القائد المؤسس، ألا وهو موضوع «كراسي الأستاذية» في الجامعات والمراكز البحثية العلمية.
وتعتبر تجربة «كراسي الأستاذية» إنجازاً عالمياً قديماً، وقد تطور في عصر النهضة الأوروبية، وعرفته حضارتنا العربية الإسلامية منذ أواخر القرن العاشر الميلادي. ولعل جامعة القرويين في المغرب كانت من أوائل الجامعات التي اعتمدت الكراسي العلمية البحثية، وبخاصة في المرحلة التي أخذ فيها علماء الأندلس يُقبلون على جامعة القرويين المغربية في منتصف القرن الثالث عشر، ويذكر التاريخ أن الأسقف جيربرت الذي اعتلى مركز البابوية في الفاتيكان في أواخر القرن العاشر الميلادي، باسم البابا سيلفيستر قد درس في جامعة القرويين في وقت كانت فيه أوروبا تعيش عصورها المظلمة.
كرسي الأستاذية هو مرتبة علمية رفيعة المستوى، يمولها صندوق ثابت أو وقفي من قبل مؤسسات أو شخصيات عامة، وتُستثمر عائدات هذه الوقفية لدعم وتمويل أبحاث علمية ذات قيمة وأهمية خاصة، وبما يعزز دور الجامعة والارتقاء بالبحوث العلمية والإنسانية، ويحقق النفع العام للمجتمع، ويُيَسِّر مسارات الحركة العلمية والإبداع، وله مدلولاته الحضارية، وقيمه المعرفية والمجتمعية العالية، وذو أثر تنموي وإنساني كبيرين.
ولا تكمن أهمية الكراسي البحثية في منظوماتها العلمية الأكاديمية والتي يوفرها التمويل الوقفي والمخصص لها فحسب، بل لأن من بين أهدافها، أيضاً، استقطاب علماء وباحثين موهوبين، قادرين على إثراء المعرفة الإنسانية، وتوفير مناخ علمي ومحفز لهم. وأتذكر أن جامعة أكسفورد قد أنشأت في عام 1636، أقدم كرسي أستاذية للغة العربية، وقد حمل هذا الكرسي اسم وليام لوديان، رئيس الجامعة وقتها، وبعد نحو 380 عاماً، قررت الجامعة إطلاق اسم الشاعر والأديب الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين، على هذا الكرسي، وتحت مسمّى «أستاذية البابطين – لوديان للغة العربية» حيث تم دعم هذا الكرسي وإحياؤه.
وفي إطار فكره الإنساني، وفطرة الخير العام التي تملأ عقل المغفور له الشيخ زايد ووجدانه، بادر، وفي وقت مبكر، وبعد بضعة شهور من تأسيس دولة الإمارات، إلى تقديم منحة مالية للجامعة الأمريكية في بيروت AUB، في عام 1972، لإنشاء كرسي للدراسات المتعلقة بالإسلام، فلسفة وتاريخياً وديناً وحضارة. وفي عام 1976، قدم منحة أخرى كوقفية قيمتها مليون دولار، ولتحمل اسم «كرسي الشيخ زايد» للدراسات العربية والإسلامية، ولتتجاوز قيمتها في السنين الأخيرة نحو 14 مليون دولار، ولتضيف إضاءات وأبعاداً جديدة للإنسانيات وقضايا الحوار والتسامح، وتم توسيع نطاق أبحاثها قبل أكثر من عقد، واستقطبت باحثين وأكاديميين كباراً، مثل الدكتور طريف الخالدي الذي تولى رئاسة الكرسي بدءاً من 2002 وحتى 2016، وتولاه من بعده وحتى اليوم الدكتور بلال الأورفلي، وقد دعمت هذه الوقفية قدرات الجامعة، وموَّلت عشرات البحوث والدراسات.
وعلى مدى العقود التالية لتأسيس الدولة، وجّه المغفور له الشيخ زايد وأبناؤه البررة وشيوخنا الكرام بإنشاء العديد من كراسي الأستاذية في جامعات عربية وأوروبية وأمريكية وآسيوية، لدعم الدراسات العربية والشرق أوسطية والإسلامية، في أكسفورد وكامبردج وويلز وميتشغان وبكين وسنغافورة، وفي جامعة تكساس (مركز لدعم أبحاث وعلاج الأمراض السرطانية) وغيرها الكثير.
وأتذكر، من وحي تجربتي الدبلوماسية في واشنطن في الثمانينات من القرن الماضي، أن مركزاً للدراسات العربية المعاصرة في واشنطن، قد تم إنشاؤه بمنحة مالية في عام 1975 من الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في جامعة جورج تاون الشهيرة، وقد روى لي الصديق الأخ سعيد غباش، أول سفير للإمارات في واشنطن في عام 1975 وحتى 1977، أن تأسيس هذا المركز قد شجع عدداً من الشركات الأمريكية الكبرى العاملة في إقليم الشرق الأوسط لدعم المركز مادياً، وتوالت التدفقات المالية لدعمه من أمير الكويت، والسلطان قابوس، رحمهما الله. كما روى لي عن مدى شغف وحماس المغفور له الشهيد سيف غباش، حينما كان وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، في تأسيس هذا المركز، وكان الشهيد يحرص على زيارة عدد من الجامعات الأمريكية أثناء مشاركته السنوية في دورة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن بينها جامعة جورج تاون بواشنطن وجامعة كولومبيا بنيويورك وجامعة شيكاغو، ويلتقي أساتذتها، ويتحدث في لقاءاته عن الإمارات كدولة ناشئة وطموحه، وعن القضية الفلسطينية كقضية عادلة.
وبعد استشهاده في 25 أكتوبر 1977، اقترحت جامعة جورج تاون إطلاق اسم سيف غباش على المركز، تخليداً لذكراه، وإسهامه المؤثر في تأسيسه، وأطلق عليه «كرسي أستاذية سيف غباش» وحددت وقفية كبيرة له، وأتذكر أن الدكتور مايكل هودسون تولى رئاسة هذا الكرسي في فترة الثمانينات.
لدينا اليوم العشرات من المراكز والكراسي الأستاذية، في الداخل والخارج، وفي مختلف المجالات العلمية والصحية والتاريخية والطاقة والإنسانيات والتكنولوجيا.. إلخ، تحمل أسماء قادة وشخصيات مرموقة ومؤسسات، لكن ليس لدينا مركز أو جهة اتحادية متخصصة مهمتها الإشراف والمتابعة لهذه الكراسي، والتنسيق بينها، والاستثمار العلمي المؤثر في بحوثها ودراساتها، وتعظيم الفائدة للإمارات من هذه الكراسي، وتبادل الأفكار والخبرات بينها.
……..
هل من يبادر لهذه المهمة الوطنية النبيلة؟