د. يوسف الحسن
كانت الهند خلال النصف الأول من القرن العشرين أكثر المناطق جذباً في عيون أبناء إمارات الساحل، خاصة في مجالات التجارة والعلاج. وكانت الكتب والدوريات العربية المختلفة تُطبع في بومباي، وتباع هناك، وتصل هذه المطبوعات برفقة التجار العائدين إلى الإمارات، كما كانت بومباي مركزاً لبيع المجلات والكتب الصادرة في مصر وبلاد الشام والعراق، مثل مجلات «المصور» و«الفتح» وجريدة «الأهرام» وغيرها.
تعرّف تجار وأدباء وزائرون من أبناء الإمارات على أحوال الهند وآدابها وفنونها وثقافاتها، وعاش فيها، على سبيل المثال، أحمد سلطان بن سلَيّم الذي كان مذيعاً في إذاعة دلهي، وكذلك عاش فيها مبارك بن سيف الناخي، والشاعر سلطان بن علي العويس الذي مكث في الهند أكثر من اثني عشر عاماً بدءاً من 1945.
ومن ناحية أخرى، لم تكن روابط الوصل مقطوعة بين إمارات الساحل وبقية أجزاء الوطن العربي، ولعل الكتاب والمجلة والصحيفة كانت من عوامل الوصل والتفاعل، وقد حرص رجال عديدون من رواد النهضة، ومن كبار التجار على المشاركة في التفاعل الفكري والأدبي، مع ما يصدر في عواصم العرب الثقافية، من كتب ومجلات، وبخاصة في مصر والعراق وبلاد الشام. كما حرصوا على تبادل الأفكار مع أدباء ومثقفين ورواد نهضويين حول أوضاع العرب والمسلمين في تلك الأزمنة، وما تقوم به قوى الاستعمار الأجنبي، من استغلال وهيمنة وتفريق للأمة العربية، ويتضح ذلك من خلال مراسلات لشخصيات إماراتية مع أدباء وعلماء عرب وصحفيين.
ومن بين هذه الشخصيات الإماراتية الشيخ سلطان بن سالم القاسمي، ومبارك بن سيف الناخي، وحسن بن عبدالرحمن المدفع، وإبراهيم بن محمد المدفع، وعبدالله بن صالح المطوع، وعلي بن عبدالله العويس، وغيرهم. ومن الأعلام العرب في ذلك الوقت، شكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، صاحب مجلة «الفتح» القاهرية.
ومن المجلات التي كانت تصل إلى الإمارات، وكان لها دور في تنمية المشاعر الوطنية، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، مجلة «الشورى» التي كان يحررها الكاتب الفلسطيني محمد علي الطاهر، ومجلات «المؤيد» و«اللواء» و«المنار».
في إبريل/نيسان عام 2000، قمت بمرافقة أُم البنين بزيارة إلى القاهرة بهدف البحث والاطّلاع على المجلدات الأصلية للأعداد الصادرة من مجلة «الفتح»، والمحفوظة نسخ منها في منزل حفيد محب الدين الخطيب، بهدف التعرف على نصوص مراسلات منشورة في هذه المجلة لأدباء وشخصيات من الإمارات. وكانت وقتها أم البنين تعمل على تأليف كتاب عن الشيخ «سلطان بن سالم القاسمي» الذي حكم إمارة رأس الخيمة في الفترة من1919 وحتى العام 1948، وقدم نموذجاً لمقاومة السيطرة البريطانية في زمن كانت فيه اليد العليا للبريطانيين على شتى الصعد السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية، والتي أعاقت تقدم ونماء ووحدة المنطقة، وحركتها المشروعة في البحار.
تعرفت أثناء زيارتنا لمنزل حفيد محب الدين الخطيب (1886- 1969) على قصة هذا المفكر العروبي الإسلامي، والأديب والصحفي الدمشقي الذي عاش في عدد من المدن العربية، متنقلاً من دمشق إلى القاهرة ومكة وبيروت واسطنبول وغيرها، وعمل محرراً في صحف «الأهرام» و«المؤيد» و«مجلة الأزهر»، وجريدة أخرى في مكة باسم «حكومة الحجاز» التي كان يصدرها الشريف حسين بن علي، وغيرها، وكان مناهضاً لسياسة «التتريك» وناشطاً في مجالات الفكر والأدب، ومال نحو «السلفية» والإسلام الدعوي في فترة من حياته.
تزودت أم البنين بالكثير من الوثائق، وبخاصة حينما عكفت على مراجعات مطولة للعديد من المجلات المصرية في دار الوثائق المصرية؛ بحثاً عن مراسلات وردت فيها لشخصيات إماراتية في فترة الثلاثينات والأربعينات.
وكان نصيب صاحبنا من الزيارة أن عثر على سلسلة (14 جزءاً) من أعداد مجلة، أطلقها محب الدين الخطيب في الثلاثينات، اسمها «الحديقة»، بحجم كتاب الجيب الشهير، والتي حرص ناشرها على جمع (أدب بارع وحكمة بليغة)، مختارات في الآداب العربية والإسلامية، أشعاراً وفنوناً ومقالات لكبار أدباء وكتاب زمانه، من أمثال أحمد شوقي، والمازني، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد زكي باشا، وحافظ إبراهيم، وإسماعيل صبري باشا، وعبدالعزيز باشا فهمي، وشكيب أرسلان وغيرهم، فضلاً عن مقالات لمستشرقين فرنسيين وإيطاليين.
تُزِّين هذه السلسلة من «الحديقة» مكتبتي، ولولا حجم «الجيب» الصغير لكل جزء، لصلحت أن تكون من «كتب المنضدة»، أتفقدها أحياناً، وأختار صفحات تستحضر رائحة الذاكرة الشعرية، والحنين إلى الفصول الأولى الأجمل في حكايات الأدب، وأسئلة الأخلاق والقيم في ذاك الزمان.
يقرأ صاحبنا صفحة في الجزء الـ(12) من مجلة «الحديقة» بعنوان «المروءة شيمة الصحراء»:«كان فارس من العرب يجتاز على جواده بادية اشتَّد فيها القيظ، وتحولت رمالها إلى مثل الجمر، فلقي في طريقه رجلاً يمشي على قدميه يَنْتعل تلك الرمال المحرقة. وبعد أن قطع مسافة، ترَّجل الفارس ودعا الرجل الماشي إلى ركوب الجواد، ليستريح جسمه من التعب الذي ألمَّ به. وكان الرجل الماشي لصاً من لصوص الخيل، فما إن تمكن من ظهر الجواد، حتى عدا به، لا يلوي على شيء، فناداه صاحب الجواد، وقال له: لقد وهبتك الجواد، فلن أسأل عنه بعد اليوم، ولكني أطلب منك أن تكتم هذا الأمر عن الناس، لئلا ينتشر بين قبائل العرب، فلا يغيث القويّ الضعيف، ولا يرقَّ الراكب للماشي، فتزول المروءة من هذه الصحراء العربية، فيزول بها أجمل ما فيها. فلما سمع اللص هذا القول استحى، وأعاد الجواد إلى صاحبه، ولم يرضَ أن يكون أول داع إلى القضاء على المروءة بين العرب».