د. يوسف الحسن
مرة ثانية، أو عاشرة، ومنذ أكثر من نصف قرن، يُبعث السؤال من جديد: هل «مات» المثقف، وانتهى دوره، كمنتج للأفكار، ومُنبّه للوعي الحي والفاعل، وشحنه بالزخم الإيجابي والجوهري وبالأمل، أم أن انطواءه هو مجرد حالة مؤقتة؟
قال لي ذات يوم قريب صديق مثقف انسحب من المشهد الثقافي، رافضاً لباس «المثقف المقاول»، ولم يعد صالحاً حتى للظهور في برامج تلفزيونية تقدمها مذيعة بلهاء: «إنه يستشعر بطالة ما، رغم مئات الكتب التي قرأها، والمقالات والبحوث التي كتبها، وعشرات الندوات والمؤتمرات التي شارك فيها».
وأضاف قائلاً: «أشعر أحياناً بالاختناق، لأن المثقف في مجتمعاتنا العربية، وبخاصة الخليجية، يعيش على هامش ضيق، ولا يجد فرصة لاختبار ما يطرحه من أفكار ومفاهيم ورؤى نقدية».
ويبدو أن شكوى صديقي المثقف لها صدى لدى كثيرين من أمثاله، ليس لقصور في ثقافتهم، ولكن، ربما، لأن دورهم مُصادر أو انتهى، وربما أيضاً، لأن الثقافة، كهمّ إنساني، لم تتمدد خارج الأوراق والبحوث والمقالات وقاعات المؤتمرات والمؤسسات الأكاديمية. وربما أيضاً وأيضاً لأسباب أخرى، تشمل: ما قيل عن «نهايات» متعددة للمثقف وللتاريخ وللأيديولوجيات.. إلخ، وحضور «مثقفون جدد» من نتَاج وتأثيرات ثورات تقنيات التواصل الاجتماعي والمعلومات، وفي ظل نمو أُفقي للثقافة، سريع وسهل التداول، اتسعت فيه قاعدة مصطلح المثقف، وقفز فوق كل الحواجز والمعايير والمهنية والصرامة العلمية والتدقيق، وقبل، فرحاً، أن يكون من «المؤثرين» في شبكات التواصل الاجتماعي، وصار يبحث عن إرضاء الجميع من خلال «الثرثرة» الثقافية، وفي إطار مستلزمات العرض والطلب والسوق.
قيل عنه إنه المثقف الجديد، أو المثقف «التبشيري»، أو المثقف «الثرثار»، أو المثقف «المقاول» الذي أفرزته ورشة «النيوليبرالية» في طورها المتوحش، وهو أقرب إلى ما يسمى بـ«الخبير الموظف».
لعله موت معنوي للمثقف كما عرفته فلسفات وتجارب تاريخية ونهضوية، وتنويرية عديدة، أو أقرب لمعنى «انتهاء الصلاحية» أمام صعود زمن الذكاء الاصطناعي، حيث الآلة تفكر وتوجّه ولا تخطئ إلا قليلاً حتى الآن.
قلت لصديقنا المثقف، وأنا أحاوره: «نحتاج إلى معرفة نصيب المثقف، في هذه التراجيديا التي تعلن انتهاء دوره، وانعزاله في برج عاجي، كما نحتاج إلى طرح تساؤلات حول «تشوش ذهنه» أمام سرعة التحولات، وشيوع مناخات سلبية من الخوف أو اليأس أو فقر الحرية، مما أصاب روح المثقف بالكسل والإحباط، وفي ظل ضجيج محيط به، تراجعت فيه قيمة الثقافة بعد أن صارت مجرد «سلعة» وتقدم «رجل المال والأعمال» في المشهد الجيوسياسي العام، كما تقدم «التكنوقراط» في صدارة مشهد القرار.
كما تصدر «الإقطاع التكنولوجي»، كصورة عصرية للإقطاع القديم في قرون ما قبل الثورة الصناعية، ورموزه «سادة واحتكار وأقنان»، وفي ظل منافسة في «السوق السحابية الإلكترونية» بين لاعبين تكنولوجيين كبار (جوجل – أمازون – أبل – ميتا – مايكروسوفت).
تساءلت في حوارنا عن المناخ الفكري السائد الذي ينتجه الإنسان في ظل ثورة التقانة والآلة و«الإقطاع التكنولوجي» الذي تتحكم فيه قِلّة من الأفراد والشركات الكبرى، وحوَّل الجميع إلى كتَّاب ومغردين وفلاسفة، يستأجرون (قطعة سحابية) ويقولون رأيهم في أصعب القضايا الإنسانية وأعقدها بدون أي خلفية معرفية، فضلاً عن الإسفاف، والتضليل الإعلامي، والمعلومات المغلوطة.
من نافل القول بأننا لانستطيع وقف التقدم التكنولوجي، لكن إن استمر هذا المناخ في وطننا العربي، والمتعلق بالثقافة والمثقف صاحب سلطة التفكير والوعي والنقد، فضلاً عن عوامل أخرى، سنجد أنفسنا والأجيال القادمة أمام منتج ثقافي مغاير لكل ما عرفناه سابقاً، يُقدم القضايا العابرة على القضايا الثابتة والجوهرية، ولا يخرج من وسط المجتمع، ولا يعبر عن حاجات الإنسان الحقيقية.
قال صديقنا المثقف، وهو يودعنا: إن المعضلة الآن ليست «موت المثقف»، بل تكمن في أننا أمام نخبة جديدة تحتكر إنتاج الأفكار والمعرفة والسلطة والثروة، اسمها، «التكنوقراط – الخبير الموظف» ومن الصعب على هذه النخبة أن تحتفظ باستقلاليتها عند تقديم المشورة، لأن طالب المشورة يريد «داعية» وليس «ناصحاً»، وتم استبدال سلطة الصورة والتكنولوجيا بسلطة المثقف وبنتاجه المعرفي والفكري النقدي، وبدوره التنويري والإصلاحي.
قيل إن دور المثقف انتهى حينما قال إن «هذا هو ما يريده الجمهور».