د. يوسف الحسن
قدم أمين معلوف، في كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، رؤيته لهذه الحروب، والتي جرت خلال قرنين مضطربين، بدءاً من لحظة وصول قاضي قضاة دمشق إلى بغداد (صائحاً حاسراً، حليق الرأس علامة الحداد)، كما يقول معلوف، إلى ديوان الخليفة المستظهر بالله (وكان عمره 22 عاماً، وينظم شعر الغزل، ومنزوياً في أجنحة الحريم). وألقى قاضي قضاة دمشق «أبو سعد الهروي»، خطاباً حماسياً، أمام الخليفة، «أبكى العيون»، مطالباً بالتدخل لوقف المجزرة التي ارتكبها الفرنجة، حينما استولوا على بيت المقدس في يوليو 1099، وذبحوا رجالها ونساءها وأطفالها، ودمروا المساجد، ونهبوا البيوت، وحرقوا طائفة من يهود القدس، حينما اختبأوا داخل كنيس، وأشعل الفرنجة فيه النار.
يقول معلوف: «وكان لابد من الانتظار قرابة نصف قرن، قبل أن يتحرك الشرق العربي، لمواجهة الغزاة».
لم يكن قاضي قضاة دمشق، بعد وصوله إلى بغداد، يعلم أن الفرنجة قد استولوا على أنطاكيا والرها، واجتازوا الشام من الشمال إلى الجنوب (ذابحين ناهبين على هواهم)، ولعله لم يكن يعلم أيضاً أن الخليفة المستظهر بالله لم يكن لديه جيش سوى حرس خاص مؤلف من بضع مئات من «الخصيان». وكانت بغداد قد سقطت تحت وطأة الأتراك السلاجقة، وكان العباسيون غارقين في صراعاتهم العائلية.
عوامل عديدة مهدَّت لحروب الفرنجة، وغذتها عصبيات دينية ونزعات هيمنة وأطماع تجارية، وشارك فيها ملوك وأمراء ونبلاء وفرسان ورجال دين، ومغامرون مشحونون عقائدياً ونهماً للغنائم أو توقاً لشرق غامض سحري.
دامت هذه الغزوات نحو مئتي عام، وكانت نتائجها دماراً هائلاً للمنطقة، وتبعها في القرن التالي الغزو المغولي الهمجي والشرس.
جرَّب العالم العربي كل الوسائل الممكنة للتعامل مع هذه الغزوات البربرية، تراوحت ما بين التحالف معها أو مهادنتها، ومواجهتها وهزيمتها.
جربت كل دولة أو سلطة في الشرق العربي، منفردة، طلب المهادنة والأمان، لكن النتائج كانت كارثية، ويذكر التاريخ أن الفرنجة قدموا عرضاً مغرياً إلى مصر بعد استيلائهم على أنطاكيا، وشمل العرض «أن تستولي مصر على القدس»، فاستجابت مصر لهذا العرض، ودخلت القدس عام 1097. وعقد الخليفة الفاطمي في القاهرة حلفاً دفاعياً مع الفرنجة في الشام، وكان في ذهنه أن هذا التحالف سيضعف أهل السنة في الشام، ويُقوي الشيعة في مصر، بحكمها على القدس، لكنها كانت صفقة خاسرة وقصيرة النظر.
بعد عامين من هذا التحالف، وبعد أن تم تحييد مصر، انقضت جيوش الفرنجة على المصريين في القدس، وحرقت مركز قيادتهم في عسقلان.
لم تتعلم مصر الفاطمية، وبغداد العباسية هذه الدروس وكان كل منهما يريد أن ينجو بجلده من خطر الفرنجة.
وفي الوقت نفسه، كان الفرنجة يتحالفون مع دمشق ضد حلب، ثم ينقضون على دمشق بعد بضع سنين، وكذلك الأمر مع الموصل ضد حلب.. وهكذا.
تنبه الخليفة الفاطمي، لكن بعد نحو 64 عاماً من المآسي، فأغاثت القاهرة دمشق، وحينما جاء صلاح الدين الأيوبي، وخلال ثلاث سنوات من حكمه، نجح في توحيد القاهرة ودمشق وحلب والموصل ضد الخطر المشترك في فلسطين، وتمكن خلال عقد ونصف العقد، وبفضل رؤيته الاستراتيجية في العمل العربي المشترك، من تحقيق انتصار في معركة «حطين» التي كانت مقدمة لزوال خطر الفرنجة نهائياً.
ويتكرر المشهد التراجيدي، في بغداد هذه المرة، في زمن الخليفة العباسي المعتصم بالله، والذي اختار سراب تحالف مع غازٍ همجي جديد، هو المغول القادم من وسط آسيا، واستسلم إلى هولاكو، ودفع الإتاوات، وخفض أعداد جيشه كدليل على حسن نواياه، وترك المغول يحاصرون بغداد، وأراد أن ينجو بنفسه وأعوانه، فذهب مع المئات من أسرته وحاشيته، من قضاة ووزراء، إلى معسكر هولاكو بناء على نصيحة وزيره ابن العلقمي، فذبحهم هولاكو جميعاً، وقيل إنه وضع الخليفة في كيس من جلد البقر، وخنقه، بعد أن رفسه الجند، حتى مات، وتم تدمير بغداد وتخريب تراثها الثقافي والعلمي، وقتل نحو مليون من سكانها، ويختفي منصب الخلافة بعد ستة قرون من وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، واستمرت سيطرة المغول على العراق نحو مئة عام.
دمشق وحلب وصيدا وغيرها من المدن العربية، كانت تتصور أن الخطر المغولي بعيد عنها، حتى استدار إليها المغول واجتاح مدنها، وقبلها اجتاح مدناً إسلامية في آسيا، بدهاء ووحشية.
ثم جاء دور مصر، والتي كانت الروح الوطنية مازالت حية فيها بعد صلاح الدين الأيوبي، فخرجت مصر إلى فلسطين، وانضم إليها جند من الشام، وتحقق انتصار «عين جالوت» في عام 1206 والذي شكل بداية النهاية للإمبراطورية المغولية، وضمن الأمن لمصر على مدى القرنين التاليين.
يقول أمين معلوف في استنتاجاته: «إن الحروب الصليبية أطلقت إشارة نهضة أوروبا الغربية، وإن أُفول نجم العرب كان قد بدأ.. وانغلقوا على أنفسهم». ويضيف أيضاً «أن الصدع بين الغرب والعرب يعود تاريخه إلى حروب الفرنجة».
……..
في كل الأحوال، إن الدرس الأول والأخير يشير إلى أن وحدة الموقف العربي، والعمق الاستراتيجي العربي، هما المدخل الضروري للأمن القومي العربي.