د. يوسف الحسن
يرحل الإنسان داخل ذاته أحياناً، وخاصة في شهر رمضان المبارك، ويغرق في تأملات حول الحياة والفكر والوجود والزمان، ويستحضر روحانيات الصوم عن «الكلام» و«الأكل» والآثام، وتأملات أخرى في معانٍ قرآنية، وفي خبايا النفس والضمير والتماسك المجتمعي، والقواعد الأساسية التي تحكم الحياة والعلاقات الإنسانية.
يتأمل الإنسان معنى الجوع الذي يكون «كافراً»، في قلعة محاصرة بالبحر والغزاة، ويصمت العالم على حصارها الطويل، ومعنى الجوع الذي يكون «مؤمناً» في رمضان ببلاد المسلمين.
يتأمل ذلك الغَسَق الذي تعيشه الأمة العربية، وأشباح الليل تراهن على ديمومة الظلام، واستدامة الإحباطات والإنكسارات.
يتوجع وهو يراها تنام وتصحو على حروب ونزاعات، وعُسر تنمية، وبديهيات تخلخلت، وخريف طالت أيامه، وأصابت جراحه الروح والعظم.
يتأمل قراءات تعسفية وقسرية للتاريخ، ويستحضر مقولة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، التي صاغها ذات يوم من زمن إمبراطوري غاشم مستشرق أصولي لاهوتي متطرف، لم يكن يتورع وأمثاله عن إغراق العالم في ليل لا آخر له، ليتمكن من سرقته، ونفي وجود شهود النفي والإثبات معاً.
يتأمل حروباً نشبت قبل قرن أو قرنين، ولم تضع أوزارها بعد، لأن أسبابها وجراحها لا تزال هاجعة، وثمة ثورات عبَّرت عن الإحساس بالعدل والحرية ودرء الظلم، لكنها تحولت إلى آليات لإنتاج مظالم. وها هو التاريخ يروي لنا كيف تحولت الثورة الأمريكية قبل قرنين، وكذلك أهل «الماغناكارتا» البريطانيون، وكل القوى الاستعمارية الغربية، إلى قوى تعبث بمقدرات أمم وشعوب وتتناسى كل شعارات العدل والمساواة والحرية وحق تقرير المصير.
شاهدت ذات يوم، قبل نحو عقدين، في المدينة المحرمة ببكين، أريكة ضخمة، يتربع عليها الإمبراطور الصيني الأخير «بويي»، ولم أكن أعرف، وقتها، أن جده الأعظم، إمبراطور الصين الأول «تشي شي هوانج» قد أعد جيشاً من الخزف والطين لحراسة سلطته الأبدية في القبر، كتعبير عن شهوة الخلود، والبقاء في سدة حكم الصين.
نتأمل، ونسائل النفس: من أين يأتي الفرح؟ ننتظر «جودو» الذي يأتي ولا يأتي، لعله يحمل بريق أمل في النهوض والخلاص من كرب الحروب والنزاعات، نلعن الحرب والظلم والشقاء، ونلعن الفاقة والخوف، ونلعن السلم المغشوش في آن.
نتأمل السياسي الذي يزمّ شفتيه وهو يستقرئ الأحداث والظواهر، ويعزف بشكل منفرد.
نتأمل الاقتصادي يتأبط جداول وبيانات وإحصائيات، لا تشير إلى سنين عجاف قادمة، لكنها تُبشِّر «قططاً سماناً» بأرباح الانفتاح في ظل «عولمة مكتئبة» وفي الوقت نفسه، يعدها بأرباح غير قليلة في ظل الانغلاق حيث تنتعش الأسواق السوداء والتهريب والمخدرات وتجارة الحروب.
نتأمل نخباً مثقفة بخطاباتها التي تعاني الإرباك، وشعاراتها «وتغريداتها» الممنوعة من الصرف ومن التأمل الفكري، والتي تضاعف من شعور العربي بالتيه.
عدت في لحظات التأمل إلى كتابات كارين آرمسترونج، العالمة والباحثة في فلسفة الأديان، والتي التقيتها ذات يوم أثناء زيارتها إلى مجلس الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح والتعايش. وهي الراهبة الكاثوليكية سابقاً، والمؤلفة والأكاديمية والتي نشرت كتاباً في عام 2006 بعنوان «محمد.. نبي لزماننا».
عدت إلى كتاب آخر لها، قرأته منذ سنوات، وعنوانه «تاريخ الأسطورة» تقول فيه: «نحتاج إلى أسطورة، لتساعدنا على تكوين سلوك روحاني، يمكننا من التعرف إلى ما وراء المتطلبات الآنية، ومن اختبار قيم سامية، تتحدى حب الذات فينا، وتساعدنا على تثمين الأرض من جديد، كشيء مقدس، بدلاً من استعمالها كمورد، وما لم تكن في عصرنا ثورة روحية مواكبة لعبقريتنا التكنولوجية، فلن نستطيع إنقاذ كوكبنا».
……..
أمام شقاء اللحظة، نطيل التأمل، وفجأة يسقط مطر خفيف يبلل الروح، ويحضر ما قاله جلال الدين الرومي ذات يوم: «أتبحث عن روحك، اخرج إذن من سجنك، غادر الجدول وامضِ مع النهر الذي يصب في المحيط، استغراقك في هذا العالم جعله عبئاً عليك، ارتفع فوق هذا العالم، هناك رؤية أخرى».