صلاح سليمان
كان مراسل الجزيرة يبث تقريرا من أمام بيت تحول إلى كومة من التراب بعد أن قصفته الطائرات الإسرائيلية للتو، لكن عيني وقعت في خلفية الصورة على طفلين يجلسان في حالة رعب شديد، وسط موجة من الهرج والمرج التي تعقب القصف الهمجي للمنازل. كان أحد الطفلين لا يتجاوز الخامسة من العمر بدا على وجهه الهلع والخوف لدرجة أنه كان يرتجف بشكل عجيب، بينما الآخر ينظر إليه ولا يعرف كيف يهدئ من روعه، وكلاهما غطت الأتربة جسده، وظهرت الندوب والخدوش على أجسامهم، وعلى مايبدو كان قد تم انقاذهم في الحال من أحد المنازل المتهدمة.
الاطفال يرسمون مشاهد الحرب
مشهد يفطر القلب حزنا على الطفولة المغتالة، لكنه ذكرني بمحنة أطفال الحروب والأمراض النفسية التي يعانون منها، وكنت قد شاهدت قبل عدة سنوات معرضا لرسومات أطفال الحرب من غزة وسوريا في ميونيخ، تلاميذ صغار يدرسون في الصف الرابع، والسادس، والثامن في المدارس الألمانية ، رسموا فيها لوحاتهم دون تدخل من أحد، فقط طلب فيها الاختصاصيون النفسيون أن يرسموا شيئا من خيالهم، فرسموا صورا كلها للحرب والدمار الذي إختزنته ذاكراتهم فترة الحروب التي شهدتها غزة .
من وسط أكثر من 50 لوحة رسمها هؤلاء الأطفال، ظهرت المعاناة النفسية التي يعانون منها، وفداحة ما يشعرون به من خوف وإحباط واضطرابات نفسية معقدة، بسبب معايشتهم للحرب في بلدانهم وفقدانهم أحباء لهم وهم في تلك السن المبكرة.
في المعرض تنقلت بين الصور، وكانت كلها بلا استثناء تتركز حول مشاهد الحرب والدماء والقتل، لقد رسموا الطائرات وهي تحوم في الجو تارة، وهي تقصف مدن وأحياء بالصواريخ والقنابل تارة أخرى، وبعضهم رسم دبابات وجنود يصوبون أسلحتهم على رؤوس مدنيين، وآخرون رسموا جثثا على الأرض، والدماء تقطر من جرحي . وكان الملفت أن لا أحد منهم اهتم على الإطلاق برسم صور طبيعية جميلة يرسمها عادة الأطفال في مثل هذه السن الصغيرة. ولا تأثرهم بالحياة في ألمانيا التي انتقلوا اليها كلاجئين، إنما ظلت مشاهد القتل والدمارعالقة في اذهانهم الصغيرة.
أمراض نفسية متعددة
كنت قد حاورت أحد هؤلاء المشرفين على المعرض من مكتب الرعاية الاجتماعية في ميونخ الذي يعمل على حل مشاكل أطفال اللاجئين القادمين من مناطق الحروب أو عبر قوارب الموت في المتوسط ـ قال لي: ان هؤلاء الاطفال يحتاجون إلى رعاية مكثفة، فهم في العادة دائما خائفون ويعانون من مشاكل نفسية ،وتظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة مثل الاكتئاب والعصبية الزائدة والقلق المستمر وصعوبة النوم والإجهاد ،وارتسام الحزن على وجوههم دائما، بل ان بعضهم متمرد الطبع ورافض لكل شئ، فيتحول سلوكه مع الوقت إلى سلوك عدواني ويصبح غير مهتم بالتحصيل المدرسي .
لاشك ان وضعا صعبا يواجه مستقبل هؤلاء الأطفال الذين شهدوا الموت بأعينهم في هذه السن المبكرة ، وهنا السؤال ـ هل يمكن إدماجهم مرة أخرى في تلك المجتمعات التي انتقلوا إليها؟
الأمر ليس سهلا، والتجارب تقول أن ذلك يستغرق وقتا طويلا حتي يتسني لهم نسيان مشاهد الحرب، بل وأن وصولهم إلى المجتمعات الجديدة إن لم يحظي برعاية نفسية مكثفة، فقد يضيف ذلك إلى صعوباتهم صعوبة جديدة ، فهم يجدون أنفسهم في عالم لم يألفوه من قبل، ولغة يسمعونها لأول مرة ، وكل ذلك يترك أثره عليهم، فنجد أن بعضهم يتأخر في النمو والكلام كما يظهر لدى البعض الآخر إعاقات ذهنية ، أما سلس البول فهو شائع بينهم ومن المؤسف حقا أن يدفع هؤلاء الصغار ثمن أخطاء السياسيين الكبار وعدوانيتهم.دون ان يلتفت أحد لحمايتهم .
متطوعون يحاولون المساعدة
فرانشيسكا فايزندر هي محامية ألمانية شابة درست أوضاع هؤلاء الأطفال منذ أن كانت طالبة في الجامعة ، واختارت بعد التخرج ان تسلك طريقا لمساعدتهم فأسست مكتب للاستشارات القانونية المجانية ، وهي تقوم بتقديم المشورات المجانية للأطفال اللاجئين وأطفال الحروب المتعلقة بالسكن وحق التعليم والعلاج في المستشفيات وغيرها، وقد زاد عدد المتطوعين في مكتبها حتى وصلوا إلى 60 شخصا منهم 9 محامين و16 مترجم .
بشكل عام أطفال الحرب في محنة بالكوابيس المزعجة تهاجمهم في الليل، كنت قد استمعت الى احدى الأمهات التي شارك ابنها بلوحة في المعرض تقول أن إبنها يرغب أن يصبح مقاتلاً عندما يكبر لينتقم من الذين قتلوا والده وجدته في قصف عشوائي على منازل الحي في غزة. وتقول إنه يرسم صور الحرب دائما، ويلعب بمسدسات الأطفال والبنادق، إنه مازال غير منتبه للحياة المختلفة في ألمانيا فهو دائما يميل للعزلة واللعب منفردا .
اللعب بالأسلحة
دائما هناك قاسم مشترك في لعب أطفال الحروب، فهم دائما يلعبون ألعابا لا تخرج عن نطاق ما شاهدوه في الحرب، فهم مثلا يقومون بلعبة تشيع جنازة شهيد، أو الاقتتال معا بالمسدسات والبنادق، أو بدل أن يستخدموا السيارات والقطارات في ألعابهم يفضلون اللعب بالدبابات والطائرات الحربية .
لاشك أن هناك عبء كبير على أكتاف أسر هؤلاء الأطفال اللاجئين في ألمانيا ، فمن جهة يحاولون التخفيف عنهم، ومن جهة أخرى يحاولون الاندماج في المجتمع الجديد رغم الصعوبات.
وحتى يتوقف القتل واغتيال الطفولة يبقى الأمل في ان يستيقظ العالم ويصحو الضميرالعالمي لوقف تلك الحروب علي غزة.