د. علي القحيص
منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، كنا نعمل في حقل الإعلام وبلاط صاحبة الجلالة، وقد عاصرنا الإعلام بأشكاله المتنوعة، المكتوب منه والمسموع والمرئي، في حالات الحرب والسلم والأزمات والأحداث الكبرى التي مرت على المنطقة والعالم، بكل تفاصيلها وتطوراتها المثيرة. لكننا، ونقولها بمرارة وأسى وقلق، لم نشاهد تغطية حرب دامية ومرعبة كتغطية ما يحصل اليوم في غزة، فهو ليس حرباً متكافئة، وليس معركة يخوضها جيش مقابل جيش، ولا آلة حرب مقابل آلة حرب مكافئة لها أو قريبة منها.. إنه دمار وهلاك وتصفية كاملة للبشر والحجر والشجر لم يحدث له شبيه من قبل في بشاعته.
إن ما يحدث في غزة كشف ازدواجيةَ المعايير والكيل بمكيالين في النظام العالمي القائم حالياً، والذي يتشدق بحقوق الإنسان وحمايته وصون كرامته، حتى أصبحت بعض مؤسسات هذا النظام ومنظماته وهيئاته الإنسانية متّهمةً بالتحيز، إذ صمتت صمت القبور حيال ما جرى ويجري من تخريب وتدمير وقتل، حتى وصل الأمر ببعض القادة الأجانب أن أصبحوا يطالبون بمزيد من العنف والحرب والدمار!
والآن تنقل الأحداث الدامية يومياً بشكل مباشر، وبكل بشاعتها وهولها، على شاشات التلفزيون، بينما في السابق كانت بعض الفضائيات حينما تنقل حدثاً مأساوياً أو كارثةً إنسانية تتجنب نقلَ الصورة القوية كما هي في واقع الحدث، احتراماً لشعور المشاهد، لكن هذه الحرب الطاحنة ضد المدنيين العزل، لم تترك لهم المجالَ للتضليل والشك والمراوغة وذر الرماد في العيون، بل إن المآسي الجارية جعلت الفضائيات تكشف كلَّ المستور في نقل الحدث الموجع كما هو بلا تحفظ، لأن واقع الحال الموجع فرض نفسَه وصورتَه كما هي بالفعل.
في الماضي كان هناك مسؤول إعلامي مرموق إذا ما شاهد بعضَ الفضائيات وهي تنقل أحداثَ حرب أفغانستان غطَّى وجهَه بكلتا يديه وأشاح بناظريه عن المشهد، إذ لا يتحمّل المنظرَ البشعَ المرعبَ، فهو يتألم إنسانياً وليس متعوداً على مثل هذه الفواجع. واليوم أصبحت الفضائيات تنقل هذه الحرب المسعورة التي أكلت البشر والحجر من دون رحمة، وهي تفعل ذلك دون أي تحفظ، وللأسف أصبحت الصور متاحةً للجميع بسبب هول حجم الكارثة التي تجاوزت إمكاناتِ كل مَن يحاول إخفاءَها.
إن تخاذل العالَم تجاه حرب غزة يمكن تفسيره من خلال العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي تؤثر في القرارات الدولية، لكن تأثير وسائل الإعلام من خلال نقلها الصورة العامة للصراع قد يلعب دوراً في تشكيل الرأي العام العالمي وتأثيره على سياسات الدول. وبالطبع فإنه يمكن أن يؤثر التوجهُ السياسيُّ أو الثقافيُّ لوسائل الإعلام على طريقة تغطيتها للأحداث، وقد يؤدي هذا إلى التحيز والاختيار الانتقائي للمعلومات التي تنشرها.
ورغم وجود تحديات واختلالات، فإنه يجب أن لا نعتبر جميعَ وسائل الإعلام متخاذلةً، إذ هناك صحفيون يعملون بجد لتوفير تقارير موضوعية وشاملة، وللتحقق من الوقائع وتسليط الضوء على المعاناة التي يقاسيها السكان المدنيون في غزة. وعلينا كمستهلكين للأخبار أن نكون حذرين، ونطلع على مصادر متعددة ونمارس النقد البناء، ونسعى لفهم الصورة كاملةً ولتحليل الأحداث من منظورات مختلفة. كما ينبغي دعم الصحفيين المستقلين، ذوي المصداقية والنزاهة والشفافية، في تغطيتهم الأحداث.
*كاتب سعودي