الإنسانية.. إلى أين؟!

أنت الآن تشاهد الإنسانية.. إلى أين؟!

محمد السماك

يرسم عِلمُ الإلكترونيات الحديثة في تطورُها، وفي اتساع آفاق استخداماتها، علامةَ استفهام كبيرة: أي مستقبل للإنسانية؟ أي نظام تعليمي جامعي في ظل سهولة الوصول إلى المعلومات والدراسات والأبحاث الجاهزة و«المعلّبة»؟

أي مستقبل للمحامين وحتى للقضاة عندما يصبح جهاز إلكتروني صامت قادراً على الدفاع عن قضية ما، أو إصدار حكم في قضية ما من دون تدخّل إنساني؟ يقول هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي احتفل بعيد ميلاده المائة في نهاية شهر مايو الماضي، إن خبراء الإلكترونيات أنفسهم عاجزون اليوم عن معرفة مدى القوة التي تتمتع بها هذه العلوم الإلكترونية الجديدة. ويشدّد كيسنجر على اعتقاده بأن هذه العلوم ستلعب الدورَ الرئيس في تقرير «السلام العالمي» خلال السنوات الخمس القادمة.

ويقارن التقدمَ التكنولوجي اليوم باختراع الطباعة بالأمس، والتي أدّت إلى نشر المعارف والأفكار ولعبت دوراً رئيساً في حروب القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا.. لذا يصف الواقع الإنساني اليوم بأنه يواجه حالة لا سابق لها من خطر «الدمار الذاتي». وتتعدّى علامة الاستفهام حول مستقبل الإنسانية عالَمَ الإلكترونيات سريع التطوّر وسريع الانفلات، لتشمل قضيةَ المناخ في ضوء الارتفاع المستمر لحرارة الكرة الأرضية ولنسبة التلوث الجوي.في عام 2015 أقرّ مؤتمر باريس حول المناخ التزاماً عالمياً لتخفيف حرارة الكرة الأرضية درجة ونصف درجة فقط. لكن يبدو الآن أن ذلك أصبح مستحيلاً؛ فالمنظمة المنبثقة عن الأمم المتحدة لمعالجة قضية الاحتباس الحراري، تعترف الآن أن العالَمَ بعيد جداً عن هذا الهدف المهم رغم تواضعه.

وتحذّر المنظمة من أن العالَمَ مقبلٌ على مستوى من الحرارة المرتفعة لا سابق له. وقد بدأت تباشير ذلك تعصف بالعديد من مناطق العالم. يحتاج العالَمُ الآن، من أجل إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، إلى سحب ما يتراوح بين 3.5 مليار طن و5.4 مليار طن من ثاني أوكسيد الكربون من الفضاء سنوياً. على أن يسحب ما لا يقل عن 9.8 مليار طن خلال السنوات الثلاثين القادمة.

وإذا تحققت هذه المعجزة فإنها لن تؤدي إلى أكثر من تحقيق الهدف المتواضع وهو تخفيض حرارة الكرة الأرضية درجة واحدة ونصف درجة فقط. يعرف الإنسان أن مصدر التلوث الجوي لا يقتصر على المحروقات (الفحم الحجري والنفط والغاز)، وإنما الحيوانات الداجنة التي يعتني بها للغذاء على لحومها، كالبقر والخراف وسواها، تسهم هي أيضاً بنسبة كبيرة في إنتاج غاز الميثان الذي يزيد الطين بلة في الاحتباس الحراري. ومن هنا كان البحث عن بديل للحوم هذه الحيوانات الداجنة للحصول على البروتينات التي يتغذى عليها الإنسان، وأول بديل هو الديدان، وهي حشرات غنية بالبروتينات، لكن معظم الناس لا يستسيغونها. ثم إن تربية هذه الحشرات تتطلب توفير الغذاء لها، وغذاؤها المعروف حتى الآن مصدره فضلات البشر وفضلات الصناعات الغذائية والمشروبات.. كل ذلك مقابل تخفيض ضئيل في نسبة التلوث البيئي.يعرف إنسان اليوم كيف يصل إلى الفضاء الخارجي. وقد وصل إليه بالفعل والتقط صوراً حتى للثقوب السوداء التي كانت من أسرار الكون. لكنه يقف مكتوفَ اليدين حول كيف ومتى ينفجر بركان ما.. أو متى وكيف تقع هزة أرضية في مكان ما.. «وما أوتيم من العلم إلا قليلاً». إلا أن هذا القليل من العلم يفتح أمام الإنسانية آفاقاً جديدة من المعارف. كانت الإنسانية عدة ملايين، فأصبحت الآن عدة مليارات.. كانت تشكو قلةَ الغذاء، والآن تشكو سوء الغذاء.

قامت مدارس فكرية عنصرية على قاعدة استحداث وسائل طبية لتخفيض عدد سكان أفريقيا وأميركا اللاتينية، فارتدّت على أصحابها كوارث وبائية. ومن المجاعة الحالية في شرق أفريقيا، إلى تداعيات وباء كورونا، إلى مواجهة مخاطر الانزلاق النووي في أوكرانيا.. يفرض السؤال نفسه: الإنسانية إلى أين؟ ( الاتحاد)

*كاتب لبناني